مواسم الفضيلة
مواسم الفضيلة…لماذا ينشط الاحتيال وتزدهر تجارة الغش ضمن أكثر الأزمنة والأمكنة احتراما وتقديسا لدى العامة والخاصة؟
الجواب ، ببساطة، هو أن الإحساس بالأمان يُعدّ الظرف المثالي لتنفيذ أي عملية اختراق نوعية كالسرقة أو السطو أو الاغتيال أو الاحتيال.
أما الظروف التي تكون فيها الإجراءات الأمنية مشددة، فهي الأكثر عرضة للعمليات الإجرامية من النوع الثقيل.. بمعنى آخر، لا تأمن لوضعك وتطمئن لحالك حتى ولو كنت في القبر.
نعم، قد يحدث بعد أن يواروك الثرى، أن تتعرض لعملية نصب واحتيال، كأن يسرق رخام قبرك ويُكسر فمك إن كنت صاحب أسنان ذهبية أو تُنهب جثتك بكاملها وتباع للمشارح إن كنت حديث العهد بالموت.
أما الذين “شبعوا موتا” فقد تباع عقّارات قبورهم وتُعرض للمزاد قبل أن يجدوا وقتا للاستظهار بأوراق الملكية.. عفوا نسيت أن الأكفان لا تحتوي على جيوب.
هذا ناهيك عن الذين تسبب الاحتيال في موتهم أصلا ومن أساسه، أي من المقتولين والمغرر بهم باسم الشهادة والعبادة والوطنية والإنسانية، واللاهوت والناسوت.
لا يريد المرء أن يسوق لصورة قاتمة عن المستوى الذي انحدرت إليه الإنسانية، لكني أنصح ببعض الحزن والتشاؤم على سبيل الحذر والاحتياط، وتجنبا للصدمات كما أوصى الفيلسوف شوبنهاور.
أنا أجزم أن صديقنا آرتور الألماني، عاشق الموسيقى، قد عاش حياة هانئة على الرغم من حالات الاضطراب التي اتهمه بها أبناء جيله وبعض الدارسين من بعده.. يكفي أنه فرّق بين المهارة والعبقرية، إذ اعتبر الأولى هي أن تصيب هدفا لا يستطيع الآخرون إصابته، أما الثانية فهي أن تصيب هدفا لا يستطيع الآخرون أن يروه.. ثم أنه شكك في الفضيلة التي يستثمر فيها الناس.
أمّا الأخطر من ذلك كله، والذي لم ينتبه إليه كثيرون، فهو أن الفضيلة قناع يمكن أن يقتنيه كل الناس ضمن مواسم أشبه بالحفلات التنكرية، فلا يُعرف عندئذ، الصالح من الطالح.
ولكي تنجو بنفسك من الرذيلة المتخفية في سوق الفضيلة، فما عليك إلا تجنب أولئك الذين يبالغون في العمل الصالح.. احذرهم وتجنبهم كما تتجنب بياعي العسل الرخيص.
وانطلاقا من قاعدة أن لا وجود لهرّ يصيد الفئران خدمة لأصحاب الدار، تأمّل في هذه الحادثة: انتصب أحدهم بسيارته “البيك آب” يوزع الخبز بالمجان رحمة على والده في الشهر الكريم، تدافع الناس فأخذ كل واحد نصيبه من الخبز مترحما على والد صاحب الخبز المجاني.
تكرر المشهد وفي نفس المكان ليومين متتاليين. وفي اليوم الثالث، جاء بسيارة أكبر منها وقال للناس هاتوا لي باسطوانات الغاز الفارغة كي أملأها رحمة على الوالد.. وإلى حد كتابة هذه السطور، مازال الناس ينتظرون اسطوانات الغاز الملآنة، ويدعون في سرهم: عد إلينا، الله يرحم والديك يا فاعل الخير.