كلمة في الزحام

نشال عاثر الحظ

مصطفى أو “ستيف” كما يحلو لأبناء حارته الشعبية مناداته، رجل أربعيني فقير وكسول، متزوج من سيدة منقبة، يشكو من آلام الديسك، ويصر على أنه مجرد ضحية عاثر الحظ، وكذلك أزمة دولية متشعبة، بالإضافة إلى مجتمع لا يقدّر موهبته في استقراء الأحداث وتحليلها كما يفعل كل يوم في المقهى.

يواكب ستيف العصر بشعره الرمادي الطويل الذي ربط طرفه بمطاط على شكل ذنب حصان، وبنطاله الدجينز المخزّق أعلى ركبتيه وقد ألصق الهيتقون إلى أذنيه يستمع إلى موسيقى الجاز وهو يحمل كيسا فيه مفك ومنشار وبراغي وجريدة، ودون أن نعلم إن كان نجارا أم سباكا أم عامل كهرباء.

ومهما كانت المهنة التي ينوي ستيف ممارستها كلما أيقظته زوجته من فراشه بالصراخ والشتائم عند الظهر، فإنه عادة ما يغادر بيته وهو لا يلوي على شيء.

مما زاد من بؤس الحالة هو انعدام فرص العمل فعلا، وسط حالة من الكساد العام، بالإضافة إلى نكد زوجته “نفيسة” التي لا تتقن إلا العتاب والتقريع. وكلما سألها متذمرا “ماذا أفعل هل تريدينني أن أسرق؟” ردت عليه بمنتهى الأريحية “تدبر أمرك.. اسرق.. لست أشرف من آلاف البشر الذين يعملون على تأمين عيشة هانئة لأسرهم”.

وتضيف نفيسة البدينة إلى عتابها في كل مرة، جملتها الشهيرة “ألا يكفي أني ضحيت بأنوثتي، قاطعت الزينة، أخفيت مفاتني وارتديت النقاب بسبب هذا الفقر الذي أوقعتنا فيه”.

هذا الصباح، فتشت الزوجة في جيوب ستيف فلم تجد سوى قطعة نقدية من فئة 5دينارات، صادرتها فورا، وألقت له بالبنطال المخزق متوعدة إياه بالطرد إن لم يعد بالنقود.

هام الرجل ذو الشعر الطويل على وجهه في الأسواق يبحث عن عمل دون جدوى. وظلت عبارة نفيسة “اسرق، لست أشرف من آلاف البشر” تتردد في ذهنه وتقطع استمتاعه بموسيقى الجاز.

وقف طويلا أمام البنوك والصرافات الآلية، رصد من تحت نظارته السوداء أناسا ذوي وجوه مكفهرة ونظرات غاضبة حاقدة على أوضاعها المعيشية الخانقة. توقف بصره عند سيدة متشحة بالسواد، تتهادى في مشيتها وتمسك بحقيبة في يدها.. لا شك أنها سحبت مبلغا كبيرا لشراء عقار أو ما شابه ذلك.

“هذا هو هدفي الأول بإذن الله” همس ستيف لنفسه. اقترب منها وسط الزحام، وهوب.. نطر الحقيبة من يدها وأطلق ساقيه للريح.

سمع الناس من خلفه يتصايحون “امسكوا حرامي..”. وما هي إلا بضع لحظات حتى خذله الوجع المفاجئ في خاصرته، وأقعده الأرض تحت ركلات الحشود ولكماتها.

وما هي إلا دقيقة حتى جاؤوا به السيدة مع الحقيبة طالبين منها تفقد نقودها وعارضين عليها خدماتهم.

نظرت إليه من خلف نقابها وهو مخضب بدماه، فتحت الحقيبة فظهرت قطعة النقود ذات فئة ال5دينارات.. أدارت ظهرها واختفت في الزحام.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى