نفس القصة
نفس القصة ..تعدّ المكوّنات الإثنية والعرقية والدينيّة والمذهبيّة في المغرب العربي قليلة الحضور و محتشمة التأثير و قد انصهر قسم كبير منها إلى درجة الذوبان في الغالبية العربية المسلمة السنية المالكيّة ، أو أنها فضّلت العيش في ” جزر صغيرة ” فيما يشبه الجاليات داخل الكانتونات ـ رغم أقدميتها التاريخية ـ مثل الأمازيغ و اليهود و الخوارج و الزنوج وغيرهم .
كثيرا ما يحسد مثقفو بلاد المغرب أقرانهم في المشرق على ما يميّز بلادهم من موزاييك ثقافي مدهش كانت قد شكّلته أعراق و قوميات و طوائف و مذاهب , من شأنه أن يكسبها تنوّعا فريدا و غنى استثنائيا يؤسس لثقافة التسامح و الذهاب نحو الآخر في سبيل متعة الاكتشاف و بهجة التفاعل الحضاري.
يكفي أن نعرف بأنّ الرواد المؤسسين للمسرح العربي على سبيل المثال ، قد جاؤوا من طوائف مختلفة وهم مارون نقاش , أبو خليل قباني و يعقوب صنّوع ، كما انتبه المغاربيون لوجود طائفة اسمها الدروز من خلال فريد الأطرش و شقيقته اسمهان ومن بعدهم الزعيم كمال جنبلاط كأحد أكبر رموز الحركة الوطنية اللبنانية , و الأبعد من ذلك كله أنّ أجيالا عديدة قد أبحرت في قواميس العربية عن طريق الشدياق و البستاني المسيحيين كما عشقت التاريخ الإسلامي من خلف روايات جورجي زيدان في “غادة كربلاء ” و “فتاة القبروان ” و ” أحمد بن طولون ” و ضحكت لكوميديا ماري منيب ونجيب الريحاني الكلداني ذي الأصول العراقية ، وسلطنت مع ليلى مراد اليهودية في أفلام حلمي رفلة وصولا إلى أنطون شلهوب الذي تحوّل إلى عمر شريف و سينما يوسف شاهين المسييحي الاسكندراني و أصله من زحلة اللبنانية الملقبة ب ” جارة الوادي ” ….وهنا وجب التذكير بأنّ مؤلف رائعة ” يا جارة الوادي ” من أصول كردية وهو الشاعر أحمد شوقي طبعا .
كل هذا الزخم الثقافي العربي الذي تعرّف إليه المغاربيون في منتصف القرن الماضي و ما رافقه من وعي سياسي كان قد نشره عرب غير مسلمين بمن فيهم منظرو القومية العربية كميشيل عفلق و جورج صدّقني و الياس مرقس , بل وقد وجد حتى بعض مرتلي القرآن من غير معتنقي الإسلام .
تعود أسباب تفوّق عرب المشرق من غير المسلمين في نشر الفن و المعرفة إلى أسباب عديدة لعلّ أهمها حظوظهم في التعليم وأسبقيتهم في التعرّف إلى اللغات والثقافات الغربية عبر الإرساليات والبعثات التبشيرية كما أنهم ينتمون إلى حواضر و بيئات مدنية عريقة في بلاد الشام ومصر و العراق ، دون أن نغفل عاملا سيكولوجيّا أساسيّا وهو سعي الأقليات الدؤوب للتفوّق كسلاح للبقاء و إثبات الذات خوفا من أن يبتلعها فك الأغلبية .
أمّا في أقطار المغرب العربي فقد استقرّ فيها الإسلام و تمدّد بعيدا ، لأنه جاء منقذا لشعوب المنطقة من غطرسة الرومان و ظلمهم ، والذين كانوا يتعاملون مع السكان البربر الأصليين كمواطنين من الدرجة الدنيا فتلقّف هؤلاء قيم الدين الجديد باحتفاء عارم… ولا يخلو أيضا من الحس الانتقامي الذي لا يمكن نكرانه .
كما لا يمكن إغفال طبيعة هذه المجتمعات في الابتعاد عن التجاذبات السياسية التي عادة ما تحشد لنفسها الملل والنحل فتنزع نحو السجال العقائدي تحت تأثيرات حضارات الشرق الموغل في الروحانيات .
لعلّ العامل الأكثر حسما في ” استحواذ” الإسلام على الساحة المغاربية دون المسيحية هو ارتباط موجات الغزو و الصراع و الاحتلال بين ضفتي المتوسط بهذه الديانة التي لم تتح للسكان الأصليين فرصة النظر إلى جانبها الإيجابي منذ مغادرة الأندلس , مرورا بحملات الصليبيين و معارك القراصنة حتى انتهت آخر عائلة مسيحية فترة حكم الدولة المرادية بتونس في القرن السابع عشر , إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي و أصبح للإسلام دور لا يمكن إنكاره في المقاومة والحفاظ على الهوية الوطنية .
ربما تحالفت السياسة مع التاريخ والجغرافيا في إفقار منطقة المغرب العربي من “نعمة ” التنوع الطائفي الذي كان سيعطيها عمقا و تنوعا وتسامحا أكثر ، ولكن ..هل هي فعلا ” نعمة ” أم ” نقمة ” قاتلة كما نشهدها الآن في بلاد المشرق العربي , حيث تنتشر أشلاء الضحايا بفعل القتل على الهوية لمجرّد الاختلاف في الطائفة و المذهب .
هل تتغيّر الموازين و يعود أهل المشرق ليحسدوا أهل المغرب على هذا التجانس الطائفي والمذهبي الذي ربما أوقعهم في ” الأحادية ” و” التسطيح “، لكنه جنّبهم ويلات أكثر ؟.
أغلب الظنّ أنّ مادحي التعددية الطائفية مثل المحتفين بغيابها ، يبنون أوهامهم في التعايش الاجتماعي و السلم الأهلي على فرضية ما كانت لتوجد لولا وجود خلل ما في بنية العقل العربي الذي تحكمه ثلاثية العقيدة والقبيلة والغنيمة على حد قول المفكر المغربي محمد عابد الجابري .
بلاد كثيرة تمتد من شمال أوروبا و حتى شرق آسيا قد حوت وتحوي مؤمنين وغير مؤمنين من مختلف الإثنيات والقوميات و الديانات , شهدت الأزمات الاقتصادية والسياسية و الطبيعية ولم يقتل فيها واحد بسبب عرقه أو دين عائلته ، ذلك نّ ما يجمعها هو شيء آخر ، يتقن أهل المشرق و المغرب التنظير فيه ، لكنهم لا يمارسونه .
إنه ذلك العقد الخفي المبرم بين الناس ، اسمه الاحترام والإقرار بالاختلاف تحت سقف القانون الذي تضمنه دولة المواطنة الديمقراطية و تحتكر فيه العنف .
كلمة في الزحام
كل إنسان في المجتمعات المتحضّرة هو جيّد إلى أن يثبت العكس ،أمّا في البلاد المتخلّفة فهو شرّير إلى أن يثبت العكس .