نلتهم الكلمات..
نلتهم الكلمات…. استحلفت صديقي المستعرب الياباني “واو” أن يقرأ لي ” كتابات ” صانع الزلابية التي يرمي بها في زيت مقلاته العملاقة أمام زبائنه الذين يلتهمون ـ ودون تعليق ـ ما يخطه بشهوة عارمة في إحدى ليالي رمضان.
ما زاد من اهتمام صديقي المستعرب “واو” بقضية الزلابية هو إفادتي له بأن الشاعر العباسي ابن الرومي المعروف بحبه للطعام قد قال يصف صانع زلابية ” يلقي بها لجينا من أصابعه فتستحيل إلى شبابيك من ذهب “، ثم أضفت بأن هذا الشاعر البارع في التصوير الكاريكاتوري، والمهجن من أعراق وثقافات مختلفة، ربما كان له اطلاع على الفنون المطبخية القادمة من الشرق الأقصى.
الزلابية، هذه الحلويات الشعبية العريقة، لا يمكن لها إلاّ أن تتشابك مع الخطوط اليابانية والصينية ومشتقاتها، وإني لأزعم وجود رابط افتراضي ما بين حروفكم و أفواهنا، فهيّا يا “واو”: هذه قطعة لك وهذه قطعة لي، وترجم لي قبل كل شيء ما نأكله دون خجل أو تردد.
تأمل ” واو” قطعة الزلابية التي في يده، واحمرّ وجه ذو العرق الأصفر خجلا حين أضاف له عم زروق، البائع، المزيد من عسل السكر إمعانا في كرم الضيافة، وقال مبتسما: بصراحة، أنا أخجل من ترجمة هذه العبارة، ومع ذلك سآكلها.. أقصد الزلابية طبعا وليس معنى العبارة.
التفت إلى صانع الزلابية وعاتبته عن فعلته، فصنع قطعة أخرى بمهارته المعهودة محاولا تغيير ” الأحرف” التي يرمي بها في الزيت، نظر إليها “واو”، قرأها بتمعّن ثم أمسك ببطنه وصار يتمرغ من الضحك، لقد كانت نكتة مبتكرة.
شكرت صانع الزلابية التونسي على ” خفة ظله ” وبراعته في الكتابة باليابانية، رغم بعض السماجة التي أظهرها في ” مخطوطته الأولى” ثم بدأ ” واو” في قراءة محتويات القصعة المعروضة في واجهة المحل وقد استحالت لديه إلى واحدة من ” أمهات الكتب”.
شكرني صديقي المستعرب الياباني عل هذه الإحالة ” المنهجية” في أبحاثه الأنتروبولوجية، وأدمن في حالات الحنين، التردد على ” مكتبة العم زروق الزلابية” أكثر من المكتبة المركزية.
قرأ “واو” في محل العم زروق، شعرا سرياليا، وطرائف وحكم وقصصا ماجنة وأخرى حزينة، شاهد أسماء أفراد عائلته وأصدقاء طفولته وهي تزيّن واجهة محل يبعد عن بلاده آلاف الكيلومترات، وأحب شعبا يقرأ بنهم بعد الإفطار، ووقف عند ” زلابجية” مبدعين، ” ينامون ملء جفونهم عن شوارد لغة الشرق الأقصى، ويسهر اليابانيون جراءها ويختصمون” .
مازلت أصرّ على أنّ هناك رابطا يجمع بين ثقافة العرق الأصفر وسر هذه الزلابية الصفراء، ثم أن العم زروق يصر على أنّ الخطوط ليست اعتباطية ولا عشوائية كما يخيل للكثير، فلقد تعلمها منذ طفولته في قريته الأمازيغية النائية قبل اللغة العربية، وأوجدت تواصلا روحيا معها، حتى أنها صارت لغة الحوار مع “واو”.. أليست واو المعية هي الحرف المسافر، واللفظ الوحيد الذي يعي نفسه بنفسه في لغة المتصوفة.