تحليلات سياسيةسلايد

هل بريغوجين قائد جماعة “فاغنر” في بيلاروسيا أم في سانت بطرسبرغ.. أفيدنا يا رئيس لوكاشينكو.. ولماذا تتناقض الرّوايات

عبد الباري عطوان

بعد مُرور أسبوعين تقريبًا من انفِجار أزمة تمرّد جماعة “فاغنر” بزعامة رئيسها يفغيني بريغوجين “مُجَنِّد” المُرتزقة وأصحاب السّوابق الجنائيّة، والمُدمن للذّهب ومناجمه خاصّة في إفريقيا، يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين قد تجاوز الأزمة المُترتّبة على هذا التمرّد “تقريبًا”، ولكن هُناك مجموعة من “الألغاز” ما زالت تبحث عمّن يُفكّك طلاسمها، خاصّةً عمّا إذا كان بريغوجين حيًّا أو ميتًا، وإذا كان حيًّا، فهل يتواجد خلف القُضبان أم أنّه حُرًّا طليقًا، وما هو مصير تنظيمه المُكوّن من 25 ألف مُقاتلًا، والمِليارات التي استولى عليها من جرّاء أنشطته “الميليشياويّة” الإجراميّة داخِل روسيا أو خارجها، وما هو مصيرها، أيّ الأموال، وأطنان الذّهب هذه، ومن الذي استولى عليها.

نطرح كُل هذه الأسئلة بعد المُفاجأة الكُبرى التي فجّرها اليوم إلكسندر لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا (روسيا البيضاء) والحليف الأوثق لبوتين، وكشف عن مضمونها في مُؤتمر صحافي عقده اليوم في عاصمته منسك، وفحواها أن بريغوجين يتواجد حاليًّا في مدينة سانت بطرسبرغ الروسيّة، وليس في الأراضي البيلاروسيّة حيث سادَ الاعتِقاد طِوال الأيّام الماضية، وأن مُقاتلي مجموعة “فاغنر” ما زالوا يتواجدون في ثكناتهم داخِل أوكرانيا أو قُرب البلدات الحُدوديّة المُحاذية لها، وحتّى يُؤكّد لوكاشينكو روايته هذه قال إنه اتّصل أمس (الأربعاء) ببريغوجين، وأكّد له الأخير: أنه حُرٌّ طليق، وسيُواصِل العمل من أجل روسيا”.

يَصعُب علينا، وربّما الكثيرين غيرنا، من المُتابعين لهذا المِلف، أخذ تصريحات الرئيس لوكاشينكو على محلّ الجد، فهو الذي خرج علينا في اليوم الثاني من التمرّد بتصريحاتٍ أكّد فيها أنّه تدخّل شخصيًّا لدى الرئيس بوتين، وأقنعه بعدم “تصفية” بريغوجين، وأعرب عن استِعداده باستِضافته وبعض أتباعه في بلاده حقنًا للدّماء وأن الرئيس بوتين وافق على هذا الاقتِراح، وبعد بضعة أيّام أكّد لوكاشينكو بعظمة لسانه أن قائد مجموعة “فاغنر” وصل إلى العاصمة البيلاروسيّة، ووجوده وقوّاته لا يُشكّل أيّ خطر على الدّولة المُضيفة.

والأكثر غرابة أن هذه التّصريحات المُتضاربة تزامنت مع أنباء مُوثّقة عن اقتِحام قوّات الأمن الروسيّة “قصر” بريغوجين في سانت بطرسبرغ (مسقط رأس بوتين) وعثرت بداخله على سبائكٍ ذهبيّة، ورُزَمٍ بملايين الدّولارات، وتُحفٍ فنيّة وجوازات السّفر المُزوّرة، وصُور غريبة ومُتعدّدة لقائد “فاغنر” يظهر فيها مُتنكّرًا بعدّة أشكال، وخزانة ضخمة من الشّعر المُستعار بأشكالٍ وألوانٍ مُختلفة، وصُورٍ لرؤوسٍ مقطوعةٍ ربّما لبعضِ خُصومه.

السُّؤال المُحيّر الذي يجعلنا نَشُك برواية الرئيس البيلاروسي، كيف يعيش زعيم “فاغنر” حُرًّا طليقًا في سانت بطرسبرغ، بينما تقتحم قوّات الأمن الروسيّة قصره، وتكشف أسراره، على المَلأ في توثيقٍ مُصوّرٍ مُدعّمٍ بمِئات الصّور الحيّة الثّابتة؟

هُناك عدّة احتِمالات يُمكن استِخلاصها من كُل ما سبق:

الأوّل: أن تكون هذه الأزمة “حيلة” استخباريّة مُفتعلة حاكت فُصولها المُخابرات الروسيّة لاستِخدامها كذريعة لاجتِثاث هذه الجماعة، التي اعترف الرئيس بوتين بتمويلها، لتجاوزها، ورئيسها، كُلّ الخُطوط الحمراء داخليًّا وخارجيًّا، خاصّةً تهجّمه على القيادة العسكريّة والتّشكيك بقُدراتها.

الثاني: أن يكون بريغوجين على اتّصالٍ فعليٍّ بالمُخابرات الأمريكيّة، وكان يُخطّط فعلًا لانقلابٍ عسكريٍّ يُطيح بالرئيس بوتين ونظامه، وجنّد مجموعة من الضبّاط على رأسِهم الجِنرال سيرغي سوروفيكين القائد الأوّل للحملة العسكريّة على أوكرانيا، ونائب رئيس هيئة الأركان الذين قالت معلومات إنه كان عُضوًا في مجموعة “فاغنر”، وهُناك اعتقادٌ سائدٌ باعتقاله أو حتّى إعدامه، وما يُعزّز هذه الرّواية قيام وليم بارنز قائد المُخابرات المركزيّة الأمريكيّة بزيارةٍ سِريّةٍ إلى كييف قبل أيّامٍ من “الانقِلاب” وكان على معرفةٍ بتفاصيله، حسب تقرير لمحطّة “سي إن إن”.

الثالث: لعب الرئيس بوتين وصديقه وحليفه لوكاشينكو على عاملِ كسْب الوقت، بالإيحاء بتجنّب سفْك الدّماء، ونفي بريغوجين إلى منسك، لامتِصاص الأزمة، وتجنّب إثارة أنصاره داخِل المجموعة أو في الجيش، وربّما جرَت تصفيته، أيّ بريغوجين، مُنذ اللّحظة الأولى التي احتلّت قوّاته المقر العام للجيش في بلدة روستوف الجنوبيّة، وتقدّمها نحو موسكو.

نُرجّح الاحتِمال الأخير، أيّ إقدام بوتين ابن المُخابرات السوفيتيّة الشّرسة KGB، على تصفية زعيم مجموعة “فاغنر” لأنّ العفو والتّسامح ليس من عقيدة هذا الجِهاز الأمني، ولا خرّيجه الرئيس بوتين الذي يتّسم بالشّجاعة والإقدام، وما يُؤكّد هذا الاحتِمال، أننا لم نرَ أيّ صُورةٍ لبريغوجين حيًّا طليقًا، سواءً في منسك التي من المُفترض أنه لجأ إليها بناءً على مُبادرة لوكاشينكو، أو في سانت بطرسبرغ التي قال الأخير إنه يتواجد فيها حاليًّا، أو حتى خلف القُضبان.

ربّما تكون فُقاعة “فاغنر” قد انفجرت، ولكنّ أسرارها ما زالت “تحت البلاطة” وانعِكاساتها على روسيا والرئيس بوتين وانفِجارها أثناء الهُجوم الأوكراني المُضاد، والدّور الأمريكي المُحتمل فيها خلقت “نكسةً” مُؤقّتةً للقِيادة الروسيّة، وقد لا تتبدّد انعِكاساتها بسُرعة.

وجود سيرغي شويغو وزير الدّفاع وذراعه الأيمن رئيس هيئة أركان الجيش الروسي على رأس عملهما حتّى الآن، واختِفاء “الخائِن” الجِنرال سوروفيكين، كُلّها مُؤشّرات تُوحي بأنّ دارَ “أبو علي بوتين” ما زالت على حالها، حتّى الآن، وربّما خرجت من الأزمة أكثر قُوّةً.. واللُه أعلم.

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى