هل مازال الأموات يحكمون من خلف القبور
هل مازال الأموات يحكمون من خلف القبور …كان بإمكان السائح المتجوّل في سوق الدكاكين السياسية أثناء فترة المدّ اليساري أن يمتّع ناظره بمجسّمات ناطقة, متحرّكة, متنفّسة لرموز وزعماء الحركات الثورية في العالم داخل أسوار الجامعات العربية, فهذا شاب “ستاليني” بشارب كثيف وهو يناقش بحدّة وتجهّم زميله الطالب “التروسكي” ذا النظارتين المستديرتين في رؤيته للعالم ضمن ما يعرف بالأممية الرابعة وذاك رفيق “ماوي” بلباس صيني أزرق يشرح لبعض المتحلّقين حوله مبادئ الثورة الثقافية وقد دعس على قلبه وانفصل عن حبيبته بسبب أصولها الإقطاعيّة, أمّا عازف العود ذو اللحية الكثيفة فيطرب مستمعوه المتحمّسون لصوته المبحوح وعزفه المتواضع .. حتى وإن “غنّى” فقرة من كتاب “رأس المال”.
وكان القوميون العرب بمختلف فصائلهم على مقربة من هؤلاء وهم يزمجرون ويتوعّدون القطريين والانفصاليين ويسعون لتعبئة “الجماهير الزاحفة”.
…وعلى اليمين منهم كان يقف الاسلاميون صفّا واحدا في مواجهة أعداء الله ورسوله وقد ارتدى الغلاة منهم ثياب السلف الصالح وأطلقوا اللحى على طريقتهم .. ولا بأس من أعواد السواك وبعض الأكسسوارات الأخرى…إلاّ أنّ جميع الأطياف –وللأمانة – كانوا يشتركون في حب أغاني الشيخ إمام.
من كل هذا الكرنفال الايديولوجي الحافل بالأصوات كان هناك العقائدي والاستعراضي والانتهازي والضال والمندس والمخبر والمغرّر به … لكنّ الحراك لم يتجاوز أسوار الجامعة, فسرعان ما كان يخبو وينتهي بخروج الطالب إلى معترك الحياة وقسوتها.
كان يحدث هذا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي حين كان الاصطفاف السياسي ترفا أو حاجة أو إكراها أو توريثا, وكانت قوافل الأنظمة الشموليّة تسير محمّلة بغنائم الفساد, واثقة من “أبديتها”, غير عابئة بما تعتبره مجرّد نباح وعواء.
لكنّ التاريخ كان يفعل فعله بصمت حتى بدا الفرز واضحا وجليّا وسقطت أقنعة التخفّي بفضل جداول صغيرة غذّاها الظلم والتهميش والحرمان.
قد لا يحلو لبعضهم توصيف ما يحدث بالربيع…لا يهم, لنسمّيه فصلا خامسا لم تتضح ملامحه بعد, إن كان ماطرا أم دافئا أم غائما جزئيا, إنه بالفعل يحيّر المتنبّئين الجويين من المحلّلين السياسيين فحيّرونا معهم, إن كنّا سنستقبله بالشمسيات والمعاطف أم بما خفّ من الثياب, لا يهم … لنجرّبه بعد أن مللنا العيش في فصل واحد اسمه “الجحيم”.
هل شبّه لي أنّي قد شاهدت كل الأطياف المتخاصمة من تلك التلوينات الايديولوجية داخل أسوار الجامعة التي درست فيها بتونس تخرج مجتمعة إلى الشارع ؟! أم أنهم أناس آخرون لم تبتلعهم الكتب ولم تمسخهم الايديولوجيات ؟ كأنّي أستمع لصوت الشيخ إمام في هذا الزحام ينشد : “عمّال وفلاحين وطلبة, دقّت ساعتنا وابتدينا, نسلك طريق مالوش رجعة, والنصر قرّب من ايدينا”.
لم يقع بصري على زعيم يخطب في هذه الجحافل الغاضبة كما نشاهد في الأفلام, لم يطرق سمعي شعار منمّق ومكتوب بخطّ ديواني أو فارسي أو كوفي أنيق, أظنّ أنّ رفيقنا (الماوي) قد عاد لحبيبته ذات المنشأ الإقطاعي وأنّ صديقنا المغنّي ذا الصوت المبحوح قد حلق لحيته وحسّن من عزفه… وهاهم أولئك الذين كنّا نصفهم بالميوعة والاستلاب والانسلاخ الطبقي, يقفون ويهتفون في الصفوف الأماميّة … ومنهم من سقطوا وتضمّخت (تيشيرتاتهم) الحديثة باللون الأحمر.
هل شفينا حقّا من عبدة الأصنام والوثنيين الجدد, هل خرجنا من متاحف الشمع أم مازال الأموات يحكمون ويقتلون من خلف القبور ؟
هل حوّلنا الدكاكين الايديولوجية إلى سوق واسعة تشبهنا وتتعدّد فيها السلع وتتنافس لخدمة المواطن ورفاهيته, أم نحوّله إلى زبون ونقلب البلاد إلى “مول” يبيع بال”كريدت كارت”؟.
هل نسينا أنّ الأموات قوم لا يموتون, لدى أنصارهم ومريديهم – من اليمين واليسار- في الفكر والسياسة و”فن” قيادة الدول والمجتمعات…(الشموليّة طبعا), إنهم يسعون في كل عصر أن يجعلوا من عظام سادتهم -التي صارت مكاحل- يجعلون منها مكاحل حقيقية يكحّلون بها وجه المرحلة الجديدة.
وعلى ذلك فالإنزلاقات كثيرة بكثرة المطبّات في هذه الطريق التي بدأناها بخطوة نحو شمس لم نكن نعرفها فرفعنا إليها رؤوسنا تهليلا وتبريكا دون أن نسعى لتثبيت أقدامنا جيّدا.
هل نسينا أنّ شراسة طالب الحرية تعادل شراسة المستبد في الدفاع عن موقعه, لأنّ استبداد حديث العهد بالحرية مثل استبداد حديث النعمة من الحكّام….
كلمة في الزحام: ظلّ القطّ يحدّث العصفور الصغير الذي ولد في القفص عن متعة الطيران والتحليق في سماء الحرية وكسب قوته بنفسه ناصحا إياه أن ينتهز أول فرصة يفتح فيها باب القفص لإطعامه ويلوذ بالفرار, فعلها العصفور الطيّب, فتح جناحيه, ارتفع قليلا ثمّ نزل عاجزا عن الطيران, ترجّل فوجد القطّ الخبيث يلعق شفتيه وينتظره عند أوّل انعطافة.