كلمة في الزحام

وحيد في الزحام

وحيد في الزحام.. سحبت السماعتين من أذنيه، وقلت له بلغة تحاول استفزازه لأظفر منه برد مضحك وطريف كعادته ” ماذا يعني أن لا تخبرني عن الموسيقى التي تستمع إليها من جهاز “الووك مان” الذي تخفيه في جيب سترتك الداخلي مثل مسدس.. هل هي أسرار شخصية؟ كشفتك.. أغلب الظن أنك تسجّل صخب الناس وضجيج الشارع لتنصت إليه وحدك، موهما إيانا بأنك تقيم جدارا يفصل بينك وبين هذا العالم“.

لم يعلّق واكتفى بنصف ابتسامة.. إنه الشاعر والكاتب السوري الساخر محمد الماغوط، الذي كان في آخر سنواته، دائم الصمت وكثير العبوس والتجهم. ينتبذ ” أبو شام” مكانا قصيا في المقهى البلوري، بعد أن يطوي أرصفة دمشق بعكازه الذي ” يوجع الإسفلت”، يقرأ في جريدته ويرد من حين لآخر على تحيات بعض القراء والفضوليين من خلف الزجاج بهزة رأس خفيفة وقد تبت على أذنيه سماعات لا أظنها تفارقه حتى أثناء النوم.

الذين يزعمون اعتزال العالم، يُبقون ـ في غالبيتهم ـ على ” شعرة معاوية” بينهم وبين الناس، حتى في أقصى حالات يأسهم واكتئابهم، بدليل أنهم يركنون إلى  المقاهي الزجاجية، وسط الشوارع المزدحمة. وفي سلوك لا يخلو من الاستعراض، يخفي هؤلاء عيونهم خلف النظارات السوداء، ويسدّون آذانهم بسماعات في محاولة لإقامة جدار عازل، ولكنه، في الحقيقة، جدار يصلهم مع العالم، وإلا فكيف نفسّر توجههم إلى الناس عبر الكتابة وشتى أنواع التواصل الفني وغيره. ولعل أفضل ما يبرهن على ذلك، هو متاهة تفاصيل الحياة اليومية في كتابات واحد شديد الانطواء والاعتكاف مثل محمد الماغوط.

العزلة ـ ذاتها ـ تحتاج إلى فك العزلة للتعبير عن نفسها. وهذا ما دفع الكاتب الفرنسي

أونوريه دي بلزاك، للقول “العزلة أمر جيد، ولكنك تحتاج لشخص ما لتخبره بأن العزلة جيدة”.

هوس الاختلاط مع الناس بذريعة أن الإنسان كائن اجتماعي، هو بدوره، أمر يصيب الواحد بالبلادة والسطحية والنمطية القاتلة، فما حيلة هذا الكائن البشري الذي يأبى العيش منفردا ولا حتى ضمن القطعان؟

وبصرف النظر عن القول بالركون إلى تلك النزعات الوسطية المقيتة والاختيارات الرمادية القاتلة، فإن حسن تقدير المسافة بينك وبين الآخر، يقرره ذلك الذكاء الفطري الذي لا تصنعه وحدات قياسية بقدر ما تسمح به الأبواب المواربة والنوافذ المشرعة نحو الدهشة والإدهاش.

هذه الغربة يوقظها الشعر الذي يجعل الحزن عذبا وجميلا كما في قول الماغوط ”  قبورنا معتمةٌ على الرابية، وأبي يعود قتيلاً على جواده الذهبي، ومن صدره الهزيل ينتفض سعالُ الغابات وحفيفُ العجلات المحطّمة. والأنين التائهُ بين الصخور، ينشدُ أغنيةً جديدةً للرجل الضائع”.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى