ورق ورق
ورق ورق.. كان بلزاك يدّعي أنّه قادر على معرفة الأشخاص وقياس موهبتهم ومن ثمّ قراءة مستقبلهم من خلال خطّهم… إلى أن جاءته سيّدة وفي يدها قرطاس بالٍ، أطلعته عليه وطلبت منه أن يتنبّأ بمستقبل صاحب هذا الخطّ الشاحب، أطرق مؤسّس الواقعيّة الروائيّة هنيهة ثمّ صارحها بالحقيقة المرّة :صاحب هذا الخط يا سيدتي الفاضلة جبان وجاهل ومدّع. .!
أجابت السيّدة العجوز بمنتهى ما أوتيت من برودة المسنّين: اسمح لي أن أصارحك يا عزيزي( هونري ) ذو الذّاكرة الضعيفة أنّ صاحب هذا الخط هوّ أنت حينما كنت طفلا.
داهمتني هذه الحادثة وأنا أتصفّح أوراقا قديمة كان قد حرثها خطّي المغاربيّ المفشكل، شواهد خفت أن تدينني أو أدينها فوجدت أغلبها طازجة الحبر دافئة الورق ولكنّها سميكة الغبار.
إليكم بعض ما كتبته دون( روتشة) و بقلب مرتجف وقلم واثق إلى حدّ التهوّر.
(مازال القلب في اليسار,قاسياً وشفّافاً… كالألماس
ما زلنا نقرأ الفاتحة على أرواح غيفارا وغاندي وأبي ذرالغفاري
ما زلنا نسنّ أقلامنا على صلابة الواقع، نكتب ونعد أنفسنا بالتخلّي عن الخمور الرديئة والتّبوغ الرخيصة وتمجيد الشّقاء…
مازلنا نقسم على انتصار الشمس)
أمضي بالتسكّع في دفاتري القديمة كبقّال مفلس، أشيح بوجهي على جمل باهتة وتراكيب عرجاء، أضحك من أحقاد ايديولوجيّة كتبت لأجل انتقامات صغيرة،أخجل من قصائد تشبه القصائد، أتنهّد أمام بقايا وردة يابسة تحرس الصفحات ويجفل ذهني كحصان عربيّ. اشتمّ فجأة رائحة الصحراء وأقرأ:
(السّقف يدلف,ألف قطرة أخرى وتأتين
هذه الطناجر مثلي تطفح انتظاراً…ولا تأتين
السقف يبكي وهذه أوّل نقطة باردة على أنفي وأخرى على أوّل السطر عند (ما) و (لا) تأتين.)
(صدأ المسمار حين عاتبه الخشب، سكت دهراً واحتجب
وعندما اقتلعه الكلاّب ذات خريف قال:
اسأل المطرقة يا سيّدي، أنا أيضا كنت أئن)
أوشك أن أمزّق أوراقي ثمّ أتراجع فأجدني كمن يحاول أن يمحو التجاعيد.
ما أخطر الكتابة، إنّها القدر تخطّه على جبين الورق ثمّ تتعب في مراده كثعلب يبحث عن ذيله القلم… يا لهذه الإصبع السادسة التي تحتفظ بأصدق بصماتك وأوّل من يتوجّه إليك بالإتّهام حين تتنكّر إليها أو تقرّر بترها. ولكن… ثمّة شيء كتبناه حين لم نرد كتابته فأيّ خبير يمكن أن يقتفي أثره ويخبر عن مستقبل فاعله ؟!
أقرأ مرّة أخرى وأنا مغمض العينين كالعرّافين:
(نحن الذين لا تقبّلهم إلاّ أمواس الحلاقة في الصّباح
نحن الذين لا تطرق أبوابهم إلاّ الفواتير والدّائنون
نحن الذين تبرّأت منهم قبائلهم عند اللزوم وألسنتهم عند الإهانة وخاصراتهم عند الرقص
نحن الذين نموت فلا يختصم من بعدنا الورثة
نحن الذين قلنا للزمن كن.. فلم يكن.)
هل أواسي النفس أم أعاتبها حين أقول هامساً أمام هذه الأوراق التي ابتلانا فيها قدماء الصينيين والمصريين :الشعر لا ينبغي أن يكتب بقلم في طرفه ممحاة، إنّه زلّة قلم يظنّه صاحبه مؤدّباً، أو فلنقل : إنّه الكتابة بالممحاة. ألم يقل ميكائيل أنجلو: أنا لا أنحت التمثال بل أبصره داخل الكتلة وأكتفي بأن أقشّر عنه الحجر والرخام.
ليت أدب بلزاك كان رديئاً فيصدق حدسه وتصحّ استقراءاته لأضع أمامه هذه السّطور ذات الطّعم المالح كتبت في طريق العودة إلى دمشق بعد أن نفضت يديّ من تراب قبر التي ولدتني:
(هيّ ذا الطريق اليوم خالية من الأدعية والنذور
معبّدة باليتم وإشارات المرور. يتم ينخر يتماً وحرمان يوغل في الحرمان…
هي ذا الأمكنة الآن أحزمها بالطريق، بحبل مشيمة لم ينقطع إلاّ الآن.
بعدك من يحرس هذا العناد… بعدك هل أشتمّك يوماً في العلم ونشيد البلاد؟!
الآن صرت أعرف يتم المآذن في ليل غرناطة، غربة التّكبير يودّعه أبو عبد الله الصغير. الآن عرفت من أين أتيت بهذي الدموع أيها الأسمر اليابس النحيل كالوتر..
تموت النخلة في المحيط فيسّاقط الدمع في دمشق جنيّاً
تموت النخلة في المحيط فتولد الصحارى ويحيا الحزن المبعثر في الحانات وينهض ظلّ يقبّل مترنّحا كل شرفات ليل الشام، يفزع القطط والسكارى ويسأل:
من لا يعرف منكم مجدافاً غفل أن يحرقه طارق بن زياد فعاد يحجّ مع حكايا الرحّالة ويسأل عن قرينه في غوطة دمشق.)