..و الثالثة آه ..
..و الثالثة آه .. مات قبل ولادتي بسنوات , لكنني أزعم أننا من ” أهل الغرام ” , غمسنا أقلامنا في حبر واحد وتعمّدت بماء الغربة والوجع والحنين , فلقد تشابه مصيرنا و تشابكت أقدارنا بشكل لافت ومخيف , خصوصا وأننا قد أبصرننا شمس المتوسط في مثل هذه الأيام من شهر آذار مارس و أرادت لنا الأفلاك أن نعتلي برج الحوت … مدار التيه والصبر الحارق والبكاء تحت الماء دون مناديل ولا مكفكفين ولا من يحزنون لحزننا ..
إنه ” بيرم التونسي ” الذي قال عنه “ارستقراطي الشعر الفصيح ” أحمد شوقي باشا “أخشى على العربية من بيرم ” .. لكنه حتما لم يخش عل العرب ولا على الشعر من بيرم ….بل من غيابه .
ولد الشاعر الشعبي محمود بيرم التونسي عام 1893 لعائلة تونسية إستقرت في الإسكندرية ، بدأت شهرته عندما كتب قصيدته “بائع الفجل” التي ينتقد فيها المجلس البلدي حين فرض الضرائب المجحفة وأثقل كاهل السكان بحجة النهوض بمستوى التنظيم السكني والعمران ، تعرف على سيد درويش وكتب له العديد من الأعمال الوطنية مثل : “أنا المصري كريم العُنصرين ، بنيت المجد بين الأهرمين .”
وبسبب نقده اللاذع للأوضاع السياسة في مصر والوطن العربى ، تم نفيه الى تونس ومنها لفرنسا وسوريا ولبنان حتى استقر المقام به مرة أخرى فى مصر بعد حصوله على عفو من الملك فاروق بعد توليه الحكم .
عمل كاتباً في “أخبار اليوم ” وبعدها في جريدة “المصري”” ثم في جريدة “”الجمهورية”” ، وقدّم أعمالاً أدبية مشهورة ، وقد كان أغلبها أعمالاً إذاعية منها سيرة الظاهر بيبرس و””عزيزة ويونس . ”
غنت له أم كلثوم ( أنا في انتظارك ، الأوله في الغرام ، الآهات ، أهل الهوى ، الأمــــل ، الورد جميل ، غنى لي شوى شوى ، قوللى ولا تخبيش يا زين ، شمس الأصيل ، الحب كده ، القلب يعشق كل جميل ) كما تغنى بأشعاره الكثير من المطربين والملحنين ، مما ساعد على انتشاره في جميع الأقطار العربية ، وظل إلى آخر لحظة في حياته من حملة الأقلام الحرة الجريئة . منحه الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1960 م ، جائزة الدولة التقديرية لمجهوداته في عالم الأدب ، و تحصل إثرها على الجنسية المصرية على الورق بعد أن قضّى حياته ” مصريّا أكثر مما يجب .
تمكّن منه مرض الربو وثقل السنين فتوفى في 5 يناير 1961م بعد أن عاش 68 عاما كان فيها رجلا لا يشبه إلاّ نفسه , حتى و إن ادعيت مجازا في بداية هذه السطور أنه يشبهني .
يتنافس المصريون و التونسيون اليوم على الحق في انتماء و ادعاء ” ملكية ” هذا الشاعر الذي كان قد تقاذفه الاثنان فيما مضى بالجحود والنكران … فلا “ولاّدة” ضمّت ولا “وسّادة “” حنّت , بالإذن من المسرحي الألماني برتولد بريخت في مسرحيته الشهيرة ” دائرة الطباشير القوقازية “.
كلمة في الزحام
تحية إلى أصحاب الغربة ذات الأبعاد الثلاثية ….إلى أرواح المبدعين العرب من المنفيين والهالكين في بلاد العرب