يا زمان الوصل
يا زمان الوصل… نعم , يحمل المهجّرون واللاّجئون على خوف وعجل ما خفّ حمله في الحقائب وفوق مراكب الموت المتهالكة , لكنهم قد يحملون أيضا ما ثقل حمله وخفي أمره في الصدور من ضغائن وأحقاد و “دفاتر حسابات ” تفتح عند الوصول إلى برّ “الأمان ” وغياب العسس و”الرقيب “.
يعلم السوريون ـ مثل الأندلسيين ـ الذين استقرّوا في بلاد المغرب العربي إثر محنتهم أنّ الطريق وحّدتهم كالموشّحات التي هرّبوها في صدورهم والحنين الذي اكتنزت به قلوبهم … لكنهم لم ينسوا خلافات “بلد المنشأ” وحتى صغائر الأمور , فما أن نزلوا حواضر مراكش والجزائر وتونس واستقرّت حالهم بعد غبن وضيم .. حتى بدؤوا بتصفية الحسابات والاصطفاف العائلي والمذهبي ..والتنابز بالألقاب.
يقال عندنا في البلاد التونسية وفي مدينة ” تستور ” ـ التي تعدّ الملجأ الأكبر لأهالي الأندلس في المعمار والملبس والمأكل والمغنى ـ يقال ” فلان يسبّ ويقشتل ” .. سألت عن أصل العبارة فشرحوا لي بأنّه يتحدث ويشتم مواطنه الأصلي أو حتى يعاتبه بلغة “قشتالة “أي ” كاتلونيا ” الأندلسية كي لا يفهمه الآخرون , فتكون الخصومة ” أهليّة محليّة ” …ويودع الخلاف طيّ الكتمان لكي لا يفتضح أمر الاثنين.
لم أستحضر هذه المقاربة بين السوريين وبعض أجدادهم الفاتحين والذي كانوا بالأصل هاربين من بطش العباسيين إلى الأندلس إلاّ بعد أن سمعت وقرأت وعايشت ” الخلافات المشروعة ” بين المهاجرين السوريين في بلاد الاغتراب , وقد وصل بعضها حدّ المواجهة والتجريح وطلب الثأر وحتى التشكيك في أسباب هجرته.
ليس غريبا ولا مستهجنا أن يعيش الواحد حياة عادية خارج وطنه الأم , يخطئ فيها ويصيب ,من الذي طلب منك أن تكون ملاكا أيها الهارب من الجحيم , إنّ لك مطلق الحق والحرية في التشاجر والاختلاف , في النبل كما الصعلكة , رفض “القطيعية” وإعلان فرديتك التي جئت تنشدها في الديمقراطيات العريقة رغم قسوتها ونظرتها التسطيحية الحولاء.
ليس عيبا أن تمارس كرامتك التي اخترتها في السر والعلن , في البر والبحر والجو ولم ترض بغيرها بديلا , فلماذا يطلب من المخيمات التزام “الأدب ” وحدها دون غيرها في كل أصقاع العالم وعبر التاريخ الطويل والجغرافيا القريبة.
هل قدّر لنا أن نكون ضيوفا على الدوام ,” ذمّيين ” وحرفاء ورعيّة وجاليات في بلادنا ,مستوطنين لا مواطنين , لماذا نحن دائمو الخوف والتوجس في حلّنا وترحالنا , غرباء في ديارنا وديار الآخرين ..؟ ..انطلق برأيك مثل سهم ولا تجعل من سمعة أبناء بلدك آنية فخّارية تحملها بين يديك وتحاذر عليها من الكسر.
لم يتحرّر مفهوم “الوطنية والوطن ” لدى غالبية المجتمعات العربية من حدود القبيلة وصيتها الذائع في السلم والحرب والكرم والفروسية حتى في حالات الضنك والهزيمة ..وظلت المكابرة الجوفاء سائدة مهما بلغنا من الوجع عتيّا.
غادر الكثير من السوريين ديارهم فرادى وجماعات , نخبة وعامة , مرغمين ومختارين … استقرّوا في بلاد صديقة وأخرى شبه صديقة وحازوا على إعجاب العالم كشعب لا يتقن الانقراض , ينحت في الريح وفي الصخر منازل للأمل …وبرهنوا على أنّ آلاف السنين من الحضارة م تكن مجرّد أوابد ومخطوطات وأصنام يهشّمها الهمج الدواعش بإمرة من مستخدميهم , بل حقيقة تستحضرها المهارة وحس الإدهاش ….ولأجل كل ذلك وبسببه هم الآن يختلفون ,يخشون أن تعلو أصواتهم خلف البحر وأمام الغرباء …لكنهم يختلفون.
يختلفون كما اختلف الأندلسيون وشتموا بعضهم بلغات “مشفّرة ” أمام المستضيفين , يختلفون على فردوس يراد تضييعه وبتآمر عليه من كل الأطراف وتحت نيران صديقة وغير صديقة.
الغرب الأوروبي والأمريكي وحتى العالم العربي وغيره من بلاد رد الجميل للسوريين , ليس مجبرا على فكّ رموز اللغات العربية و الآرامية والكردية والشركسية والتركمانية والأرمنية والأوزبكية أو قراءة كتاب ” الملل والنحل ” للشهرستاني أو ” ابن عساكر ” أو “طرق الشام ” ل محمد كرد علي .. لكنه مرغم ـ وغصبا عنه ـ أن يدرك بأنّ هذه البلاد ليست سهلة و ليست في متناول الذي يعدّون بألف ممّا تعدّ الحضارات الهجينة.
لم يصدّر السوريون خلافاتهم , بل هرّبوها معهم ثمّ فتحوا الدفاتر التي يجب أن تفتح سلبا أو إيجابا .. و الحسابات الجيّدة تصنع الأصدقاء الجيدين كما يقول المثل الفرنسي … إنها العصبية التي كانت ولا تزال علّة بقاء الدول و زوالها كما قال ابن بلدي عبد الرحمن بن خلدون في مؤلفه الشهير ” كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أخبار ملوك العجم و العرب و البربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ” والذي فاوض تيمورلنك في الشام وهاجمه المرحوم سعد الله ونوس في احدى مسرحياته في إشارة للمثقف الذي يحاور العدو الخارجي وتلك مسألة أخرى ومتشعبة.
كلمة في الزحام
الأصدقاء لا يتحدثون بالضرورة لغة بلدي أمّا الأعداء فقد يتقنونها جيدا .