تكلّم حتى أراك….
تكلّم حتى أراك…. فعلت حركة النهضة الاسلامية التونسية في غضون عامين ما لم يستطع نظام بن علي فعله طيلة ثلاث وعشرين عاما ….كيف..!؟.
ظلّ النظام البوليسي البائد في تونس يقنع الشارع بضرورة ازدراء الجماعات الاسلاميّة و تخوين قادة هذا التيّار ورموزه، مجنّدا لذلك آلته الإعلاميّة الشرسة البلهاء والمحتكرة لآذان التونسيين وعيونهم، مطوّقاً نفسه بجيش من المستشارين، غالبيتهم من المنتفعين وفلول اليسار المخدوع واليمين المرتهن لسياسات الغرب الذي تعامل معنا – باسم العولمة – تعامل ثعلب حرّ في قنّ من الدجاج (الحرّ).
كلّما زاد نظام بن علي من تضييق الخناق على جماعة (النهضة الاسلاميّة) زاد التوانسة في التعاطف معهم ومؤازرتهم، مثل كل الشعوب الطيّبة والرافضة لقطع الألسن والأرزاق والأعناق، حتى أنّ صديقاً يساريّاً قد حدّثني بأنّه هو ورفاقه في السجن كانوا يتضامنون مع الاسلاميين فيشاركونهم صيامهم وصلاتهم في رمضان وقد انضمّ إليهم سجناء الحقّ العام ممّن لا شأن لهم بدهاليز السياسة والصراع على الحكم .
قدّر (نضالهم) آنذاك الناس البسطاء ذوو الهويّة العربية الاسلامية الواضحة التي لا لبس فيها .. وحتى خصومهم الايديولوجيون (في الوقت الذي كانوا هم فيه يتقاسمون على أنفسهم ) وكل الحقوقيين و نشطاء المجتمع المدني، وقف إلى جانبهم في محنتهم النخبة والعامّة إيماناً من الجميع بأنّ لا بدّ للقيد أن ينكسر .
انكسر القيد بعد ثورة 14جانفي/ يناير … لكنّ الليل لم ينجل، بل ثمّة من يقول أنّه ازداد حلكةً وسواداً، بعد أن أجهز (معارضو الأمس) على السلطة وشكّلوا حكومة زيّنوها ب (شبه شركاء) حداثيين كمن يسكن كهفا ويؤثّثه بمفردات العصر، وذلك ذرّاً للرماد في العيون وإرضاء لثعالب الغرب التي لا يهمّها علف الدجاج بقدر ما يهمّها بيضها ولحمها و(أمن) الطريق الموصلة إلى القنّ.
حدث ذلك بنفس الغفلة التي أكل بها نظام بن علي الصفعة … لكنّها كانت هذه المرّة على خدّ الشعب التونسي الذي لن يسلّم الأيمن على من صفعه على الأيسر، ولا يحبّ أن يلدغ من جحر المرارة مرّتين فبدأ بالتململ الواضح منذ الأشهر الأولى من حكم (ذوي السوابق) الحميدة والكريهة على حدّ سواء وتطوّر هذا الامتعاض إلى مسيرات الاحتجاج والتشهير بالذين كنّا نعتقد أنهم (يخافون الله) ويبشّرون بعدالة اجتماعية وكرامة وطنيّة : العبارة الكفيلة بهزّ عروش الظلم والفساد مهما عظمت آلتها القمعيّة .
بلغ الغليان والاحتقان الشعبي اليوم حدّه في تونس، خصوصاً بعد التطورات الأمنيّة الأخيرة والمناورات السياسية التي تقوم بها حركة النهضة في تشكيلتها الجديدة ظناً منها أنّ الشعب مازال في مرحلة الحضانة … وهو الذي ينام ويستفيق على الحديث في السياسة وأحوال البلاد.
نعم، لقد صار (رحيل الحكومة) مطلباً عاماً يكاد ينادى به حتى في صلاة الجمعة التي يحتكرها النهضاويون والسلفيون : أي خزّانهم الاحتياطي وخطّتهم المتوقّعة للانقلاب على الانتخابات القادمة .
هكذا نجحت حركة النهضة بامتياز في المعضلة التي فشل فيها زين العابدين بن علي فشلاً ذريعاً: ألا وهو اقناع الناس بأنّ الجماعة الاسلاميّة لا تنفع للعير ولا النفير، لا تصلح ولا تصلّح .
كيف لعازف مبتدئ أن يطرب جمهوراً من (السمّيعة) وهو يحتضن آلة مهترئة اسمها الحكم و(ينشّز) على وتر واحد اسمه المشاعر الدينيّة…!؟.
مياه السياسة الهادرة في ثورات الربيع العربي كذّبت الغطّاسين المبتدئين من الذين اعتادوا الغطس في الأوحال والمياه الراكدة، منحت فرصة للذين كنّا نظنّهم صائمين عن الكلام … فنطقوا كفراً بعد أن سكتوا دهراً … رأيناهم جيّداً عندما تكلّموا، فـ (تكلّم حتى أراك) كما قال أحد فلاسفة الإغريق .. ومنهم من ينسب هذا القول للإمام علي بن أبي طالب الذي سأختم هذه السطور بما جاء على لسانه في نهج
البلاغة :
*كلمة في الزحام:
والله والله مرّتين، لحفر بئر بإبرتين وكنس أرض الحجاز بقشتين وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين …لأهون عليّ مرتين من إفهام أحمق عبارتين.