أخاف أن تعاودني صحتي فأمرض
حتما، لم يخطئ الذين قالوا بأن الصحة تاج على رؤوس أصحابها من الأصحاء، بدليل أني أكابد الآن على نفسي، أفتح شباك غرفتي في الطابق العلوي من المستشفىى لألمح حشودا هائلة من ” الأمراء والملوك والسلاطين” غير المتوجين وهم يتزاحمون في الممرات والشوارع والطرقات، يتخاصمون ويتصايحون دون أن ينتبه واحد منهم إلى هيبة التاج الذي يعلو رأسه.
أما أنا فقد انزويت إلى كربتي وأدويتي وسريري مثل سلطان مخلوع بات يؤتمر بأوامر الأطباء والممرضين، وقد أمست مملكتي دويلة من بياض الشراشف والممرضات ووصفات الدواء وورود زائرين لا ألتقيهم ولا يأتون.
المرض حالة أسر لا تخلصك منه فدية، لا ينفع معه حالة تبادل لمحتجزين.. ولا تواسيك فيه حمامة تنوح بقربك عند الشباك كما فعلت مع أبي فراس الحمداني.
لا يصحبك في مرضك ولا يقتسم معك أوجاعك غير بدنك، وقديما قال أبو الطيب: لا تلق دهرك إلا غير مكترث، ما دام يصحب روحك البدن.
أبو الطيب الذي خبر أوجاع الروح والبدن، يقول في قصيدة “الحمى” التي ما تنفك تلاحقه وتلازمه إلى حد التحرش كما تفعل بي هذه الأيام:
وَزائِرَتي كَـأَنَّ بِهـا حَـيـاءً فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ
بَذَلتُ لَها المَطـارِفَ وَالحَشايـا فَعافَتهـا وَباتَـت فـي عِظامـي.
لم يتوقف المتنبي في وصف المرض عند هذا الحد من الاستعارات مشبها العلة بالحبيبة الخجولة واللعوب بل ذهب أبعد من ذلك في مطلع القصيدة الإعجازي، والذي تناساه وتجاهله رهط كبير من الدارسين وحفظة شعره ظنا منهم أنه قد سقط سهوا من قصيدة أخرى، وذلك لغرابته وشدة متانته، ويقول فيه
“ملومكما يحل على الملام ووقع فعاله فوق الكلام
ذراني والفلاة بلا دليل ووجهي والهجير بلا لثام”.
بعد كل ما قاله صديقي “أحمد” عن سوريالية أوهان المرض وفانتازيا الحمى وفضلهاعلى عمق شاعريته، فضلت أن أبقى ـ مثل الملك لير ـ بلا تاج من صحة أو من شوك، وبلا صولجان من قلم أتوكأ عليه.. أقتفي أثر حركات المهرجين وأستقي الحكمة من عبارات المجانين.. وأشتري الشموع من المكفوفين.
أغالب نفسي مرة ثانية، وأعود لأغلق شباك غرفة المستشفى وقد شبعت من التفرج على أولئك الأصحاء الذين تلتمع تيجان ملكهم فوق رؤوسهم الصغيرة في زحام الأسواق.. وأعلن ولائي وطاعتي وخضوعي الحر لدستور مملكة المرض مع أبي الطيب في هذيانه وأبي فراس في أسره.
المرض يصحح علاقتنا مع الجسد والروح، ومع الذات والآخر، لذلك قيل إن أصدق الكتابات هي تلك التي خطها أصحابها على أسرة المرض.. “وإني أخاف أن تعاودني صحتي فأمرض”.