من يتذكّر مسلسلا اسمه (أسمهان)…؟!
أسمهان صوت قدم من السماء وسكن حنجرة أميرة ثمّ عاد إلى السماء بعد رحلة حياة تشبه المنام… هكذا تصنع الأقدار(دراماها) الخاصّة وتقول للكتّاب في سخرية واضحة: آتوني بمثلها إن كنتم صادقين.
أعترف أنّ التلفزيون هزمني هذه المرّة وجعلني أجالسه وأتابع مسلسلا عن أسمهان لا لأنّ الأخيرة معشوقتي الأبديّة فحسب، بل لأنّ ما شاهدته يرتقي إلى الأناقة في كلّ ّشيء: نصّاً وأداءً وتصويراً وألواناً وإضاءة ولغة إخراجيّة تنظّف العين من كلّ ما يمكن أن يلحق بها من تلوّث بصريّ طيلة هذا الكرنفال التلفزيوني.
كنت ولا زلت أعتقد أنّ قدر الأعمال الرفيعة في غالب الأزمان هو الجحود والنكران وأنّ مجمل صنّاعها لا يسلمون من الأذى حتّى يراق على جوانبهم الانتقاد اللاّذع والتهجّم المجّاني.
دع عنك التشاؤم ـ قلت لنفسي، وتخلّص من هذا الحكم الجائر في حقّ المنشغلين بالمتابعات النقديّة والقراءات الفنيّة فلقد تطوّرت الذائقة وأصبح المبدع يستمع ويستمتع بكلمة (أحسنت) قبل أن توضع القطتان في أذنيه ويرحل إلى هناك.
لم أكد أنهي هذا التقريع الذاتي في حقّ نفسي حتّى فتحت جريدة وقرأت المانشيت التالية بخطّ نافر وعريض: (مسلسل أسمهان سقطة موجعة للدراما السوريّة)… وطفق الناقد العتيد يعدّد(عيوباً) في العمل مستخدماً (الحواضر) من تلك المصطلحات والعبارات التي يأتي بها من النمليّة النقديّة من نوع: حركة الكاميرا سيئة، الإيقاع بطيء، الأداء نمطي ومترهّل، النص مفكّك، الإخراج ضعيف.. وهلمّ جرّا من توصيفات هلاميّة، شبه نقديّة، عديمة الممسك والتي تمنّيت لو قالها على إحدى المنابر أمام متخصّص فيطلب منه شرح ذلك علناً والبرهنة على ما كتبه بالتفصيل الدقيق والممنهج والمملّ… (يعني هات، اشرحلي لشوف).
لماذا هذه الاستباحة؟!..هل ينبغي التذكير بأنّ النقد أمانة أخلاقيّة ومعرفيّة وإبداع واحتراف وتخصّص، بأيّ حقّ يجرأ الواحد على التعرّض لعمل من الواضح أنّ كلّ مشهد فيه درس بتأنّ وعناية فائقين، بأيّ حقّ تصادر آراء المشاهدين من غير الذين أخذتهم العزّة بالتخلّف؟!..
أقلّ ما يقال في (أسمهان ) بأنّه عمل مسؤول وقد كتبت عنه وكالة الأنباء الفرنسيّة في القاهرة بأنّه قفزة نوعيّة في صناعة الدراما السوريّة والعربيّة عموماً.
لست منتجاً لهذا المسلسل ولا طرفاً في صناعته كي أدافع عنه متحمّساً أمام نقد جارح ولكنّي أعتبر نفسي معنيّاً بأيّ ضوء يهزم ظلام القبح ويتصدّى لزحف التفاهة والتغزّل بالأوهام.
قد يكون كاتب (المقال النقدي ) الذي لا أعرفه شخصيّاً ولا يحضرني اسمه ضحيّة لذائقة كرّستها أعمال رديئة فباتت مقياساً لقراءة ما شذّ من أعمال تحاول الاختلاف وتسعى لاحترام المتلقّي دون ثرثرة بصريّة وحركيّة ولفظيّة، ودون تشويق بدائي يحاكي الحكواتي في سير لم توجد إلاّ في مخيّلاتنا المهزومة، ربّما فات بعض ممتهني النقد الفنّي أنّ العمل الناجح هو ذاك الذي لا تنتبه فيه لعنصر فنّي يعلو صوته دون غيره على بقيّة العناصر كأن تبدي إعجابك بحركة الكاميرا وحدها أو بالألوان وحدها أو بالنصّ وحده… الخ.
للجمال فئة قليلة من الحرّاس والسّدنة والمريدين ولكنّ للقبح فئة كثيرة من الغوغاء والانكشاريين والقنّاصة والمرتزقة أمّا المعركة بين الطرفين فكرّ وفرّ وهي حامية الوطيس منذ بدء الخليقة ولن تحطّ أوزارها حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.
الحديث عن أسمهان يحيلنا إلى التوقّف عند ثقافة الإلغاء القسري أو التثبيت القسري التي تتمتّع بها الذهنيّة السائدة منذ زمن ضارب في القدم والتي عانت منها أسمهان نفسها قبل أن يبلّلنا صوتها في مواسم الجفاف والتصحّر وقبل أن تغرّد الطيور حبّاً واحتفاءاً بمعجزة اسمها الحياة.
شكرا لـ(أسمهان) صوتاً وسيرة ومسلسلاً رغم، قولهم بأنّ الأميرات والأمراء ينطربون ولا يطربون.. شكراً لعائلتها الكريمة التي أنهت كلّ لغط قد يثار حول خصوصياتها وقبلت بـ(آمال) ملكاً لكلّ عشّاق الجمال والنّقاء وموضوعاً راقياً من مواضيع الدراما الراقية نحارب بها أزمنة التسطيح والتهريج والفجاجة.