كتاب الموقعكلمة في الزحام

الثلج…عمامة الجبل الشيخ وشيب “قاسيون”

الثلج…عمامة الجبل الشيخ وشيب “قاسيون”… حملت ابنتي ذات السنة الواحدة وأخذتها إلى النافذة كي تشاهد الثلج لأوّل مرّة في حياتها…ابتسمت ابتسامتها العريضة، وأشارت بيدها في فرح …لعلّها تحسبه وليمة جادت بها السماء من وجبتها المفضّلة: أي خبز منقوع في اللبن أو رزّ مسلوق … أو حتى فقاعات صابون من تلك التي تطلقها قاطرتها الحمراء الصغيرة.
شكراً أيها الثلج لأنك جئت بلون لحية (بابا نويل) وعلى إيقاع جرسه وبهجة هداياه … بعد مطر صلّى لأجلها فلاّح يزرع وطفل يرضع ودابة ترتع …وقلب يخشع.
شكراً أيها الثلج لأنك أهديت الأشجار والبيوت قبّعة بيضاء، ودعوت الجميع إلى الرقص، لاعبتهم أيها الأبيض، دون أن تفرّق بين غني أو فقير.
شكراً أيها الثلج لأنك أفرحت ابنتي الصغيرة، جعلتها تتذوّق دبس الرمّان وتستمع إلى فيروز بشيء من الانتباه كما كان يفعل أخوالها في الشام .
كم قد صنعنا منك كرات ونصب وتماثيل …ثمّ اختفت عند بزوغ أوّل شمس…وظللنا ننظر إليك أيها الثلج فوق القمم العالية وكأنّك تعود إلى السماء… لكنّك لم تختف من ذاكرتنا المضربة عن النسيان فينا.
لعلّ من أفضالك أن جعلت الناس يمرحون مثل الهررة الصغيرة مع بكرات الصوف ….وجعلت البحتري يعتكف في بيت صديقه ويكتب ديوان (الحماسة) بعد أن منعته من العودة إلى بيته وقطعت عنه الطريق.
لكنّك أيها الثلج، تثقل في المزاح هذه الأيام مع أكواخ الفقراء وأجساد العراة وحقول المزارعين ومراكب الصيّادين ..وصغار الكسبة والمشرّدين والمهجّرين .
شاهدناك في أفلام معارك الحرب العالميّة، تجمّد الدماء في عروق الذاهبين إلى حتفهم …مروراً بحروب البوسنة …وأنت تغطّي جثث الضحايا ودماء الأبرياء والمغتصبات …وصولاً إلى سوريا الجريحة، ما أتى وما سوف يأتي من فواجع ومآسي يتناوب عليها القتلة والطبيعة كأضحية غالية تدفعها الأصوات المبحوحة.
أيها الفتات النازل فوقنا من راحة السماء السخيّن أيها الضيف الخجول الذي يتوقّف عند عتبات المنازل دون أن يطرق أبوابه ان كيف يستقبلك ويرحّب بك من لا يملك طعاماً أو شراباً أو ناراً أو ثياباً أو بيتاً…أو حبيباً يتدفّأ ويسكن ويقتات من قلبه….
لكم تشارك في الرومانسيّة مترف مع متقع: الأوّل يشعل الشمعة باختياره، أمّا الثاني فلا يملك خياراً آخر، الأوّل يزرع في حديقة بيته لمجرّد المتعة، أمّا الثاني فللحاجة…ولكن ما أجمل الضرورة حين تلتقي بالمتعة.
أيها الثلج، مثلما نزلت فرحاً وسلاماً عشيّة ميلاد رسول المحبّة، فإنّك مازلت تنزل (أغطية) لمرضى وجرحى بلا مسعفين ولا أطبّاء…مازلت تنزل أكفاناً وشواهد بيضاء على قتلى لأجل هويّة ….وموتى بلا هويّة ولا عنوان.
بدأت الأسئلة تهطل فوق رأسي وأنا ألاعب طفلتي الصغيرة، أحدّث نفسي وأحدّثه في صمت:
سبحان الحكمة الإلهية التي جعلت من القطب الشمالي لكرتنا أبيض ومن قطبها الجنوبي أبيض. .وبينهما بقيّة الألوان..! .

هل لأنها جاءت لتذكّرنا بلون البداية ولون النهاية، لماذا تهطل الثلوج في صمت ودون ضجّة، وكذلك تفعل الشموس حين تشرق أو تغيب، الأشجار والأزهار حين تتفتّح وتنضج ثمارها …أمّا حبيبات الفستق فتصدر أصوتاً تقارب التناغم الموسيقي الأخّاذ حين تتفتّح في الليل، إنها مثل فراخ تطلّ برؤوسها على الحياة لأوّل مرّة.
استدركت قائلاً:ماذا فعلت بي أيها الثلج هذا الصباح ؟!..لماذا لا تنتابني هذه الأفكار عندما كانت شموس تمّوز تجثم فوق رؤوسنا وتكاد تذيب آخر ما يسيل من الخيال….هل لأنّ للصيف ظلالاً قد يتفيّأ تحتها المهجّرون وإن كانت من دمار وبقايا منازل ؟.
كلمة في الزحام …امض إلى حضن أمك يا ابنتي، سأخرج لملاقاة الثلج، عمامة “جبل الشيخ” وشيب “قاسيون” ..أوصيه رفقاً ودفئاً وبلسمة لجراح السوريين المفتوحة والنازفة في كل الاتجاهات …أحدّثه عن كل شيء…ماعدا “عواطف التماسيح ” أمام نشرات الأخبار…

24.02.2014

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى