ماذا تقول الوجوه
ماذا تقول الوجوه …لاشيء يسليني كمراقبة وجوه البشر. ضعني فقط وحدي في مقهى مزدحم ، أو في حافلة ركاب حاشدة ، و أتركني أتأمل الوجوه حولي وثق بعدها أن السأم لن يجد أي منفذ إلي.
لا تصدق أبدا قول الشاعر العربي القديم : ( من راقب الناس مات هما) بل صدق من يقول :
( لا شيء يطرد الهم مثل مراقبة الناس) ، شريطة ألا يُفهم من كلمة ” المراقبة ” هنا الفعل الصادر عن الخوف أو التوجس أو الحسد ، بل الفعل الذي لا هدف له سوى التأمل و الفضول و الفراسة ، إلا وجوه الأطفال فالطفولة قادرة بما تملك من طهر البراءة أن لا يبدو للطفولة سوى وجه واحد جميل صادق .
هذا مثلا وجه جامد يكاد لا يوحي بشيء ، لكن ما أن تعثر على عينة حتى تحس في رفة الهدب أو تقلص الجفن أو بريق العينين ما يذكرك بالتكبر و العناد ، و ذاك وجه استقرت ملامحه على وضع مريح منسجم مع نفسه فلا يوحي إلا بالسكينة التي تغمر عالمه الداخلي فهو لا يتلفت كثيرا و إذا صنع أدام النظر فيما يتوجه نحوه ، إنه إنسان يحسن الإصغاء كما يبدو و هو محب للتفاهم و لكنه فاتر المشاعر بعض الشيء ، حتى حيال الأشياء المثيرة و كأنه يعرف كل شيء و هذا وجه ثالث كل مافيه مزموم متوتر يتلون و كأنه يفكر في أمر مخجل من دون إنقطاع ، و ذاك وجه رابع ما تكاد تلتقي به حتى تجد نفسك على أهبة الضحك ، إنه وجه مكتنز اقرب إلى الوسامة و نظراته إلى الأخرين توحي دوما بابتسامة ساخرة و لكنها خفية متواطئة و كأنها تقول لك إضحك فالحياة مضحكة حقا ولا بأس من أن تشاركني في هذا الرأي و هناك وجه ما تكاد تواجه ملامحه الملتوية الحاقدة حتى تأخذك رعشات الخوف، إنه إنسان سيء الظن بالبشر و غير مستعد للتسامح على الإطلاق فلو كنت مخرجا سينمائيا أو مسرحيا لما أسندت له سوى أدوار رجل العصابات العنيفة أو المنظمات
الإرهابية .
وجوه …وجوه …تملأ الدنيا حولك بالمعاني و الأفكار المتأرجحة بين قطبي الجهامة و الرقة ، و مع ذلك فهناك وجوه تصعب قراءتها إذ تبدو محايدة أو موهوبة في التمثيل حتى لتبدو الصورة التي يريد أن يقدمها للناس طوع ملكاته و لها فإن وجهه لا يكشف حقيقته بسهولة و لا بد عندئذ من إدامة النظر إليه طويلا كي تمسك حقا بجوهر شخصيته الكثيرة و السريعة التحول.
وجوه البشر … ما أمتع مراقبتها و ما أعجب ، و ما أخطر إذا ما أخطأت في فراستك إياها. و إذا لم تصدقني فجرب على الأقل أن تتأمل وجهك في المرأة دونما تحيز و حدثني بعدها عن مشاعرك الحقيقية أما أنا فلقد صنعتها ذات يوم ، ومنذ ذلك الحين أحلق ذقني بسرعة كي لا أطيل النظر في المرأة فأرى ما لا تسرني رؤيته.