سوف تلهو بنا السياسة والأيام
البارحة، استرقت السمع لشحاذين اثنين يتحدثان في السياسة أمام الجامع، وكل منهما يمد بيده أمام المارة العابرين والكاتمين لغيظهم.. أدليت بدلوي في الموضوع.. لكني أحسست بنوع من البرودة منهما، ذلك أنهما لا يقبلان بالنقاش المجاني على ما يبدو.
هكذا يتفشّى الوباء فيظهر المتطبّبون والمشعوذون, يعمّ الخراب فينتعش أنصاف المقاولين وأشباه البنّائين، تسود المجازر وتنتشر رائحة الموت فتنشط تجارة التوابيت والأكفان, يغيب جمال الروح فتزدحم عيادات أطبّاء التجميل بطالبات النفخ والتكبير والتنحيف.. وتمجيد الجسد الفريسة.
ما أن يتأزّم الوضع حتى ينبت المحلّلون في السياسة كالفطر أمام الكاميرات والميكروفونات وغيرها من وسائل الإعلام والمواقع الباحثة عمّن يملأ فضاءاتها الافتراضيّة
صرنا في تونس مثلا، نصدّر الفائض من المحلّلين السياسيين إلى مختلف فضائيات العالم، فهل تجاوزنا مرحلة الاكتفاء الذاتي من الزيتون والنسيج والسياحة والحمضيات.. والسلم والشجار والكلام؟
أمّا في دمشق التي كنت آخر مغادريها من أصدقائي في الوسط الثقافي، أثناء اندلاع الأحداث، فلقد كان جاري أبو شفيق، بائع الموبايلات، يجلس خلف طاولته ويمسك بالقلم بين يديه مستعينا ببعض المفردات المصرية ويقرأ الوضع على طريقة حسنين هيكل.
حسام الحلاّق ما ينفكّ يذكر في صالونه اسم الصحافي البريطاني روبرت فيسك، وقد اكتشف اسمه حديثا. وكثيرا ما كان يصطدم مع صانعه الذي لا يخفي إعجابه بالمحلّلين اللبنانيين ويستعير لهجتهم كلما حشره معلّمه في الزاوية.
وكثيرا ما كنت أهدّئ اللعب بين الاثنين ـ كطرف شبه محايد ـ عندما يحمي وطيس النقاش. أثني على رحابة صدر المعلّم وأطلب منهما استراحة قصيرة لشرب الشاي أي “بريك” بلغة الفضائيات و”تي تايم” على طريقة الانكليز..
كنت أصطدم مع جاري اللحّام ذي الرأي المتشدّد، أمّا جاري البقّال وبائع السجائر فكان غالبا ما يلين ويوافقني الرأي كلّما سدّدت له دينه.
يحدث أن تتعارض وتتصادم آراء أبناء حارتي الذين أحبهم في دمشق أي أبو عمر السنّي، أبو حسين الشيعي، أبو سلمان الدرزي، أبو غسّان المسيحي، أبو حسكو الكردي، أبو اسماعيل العلوي، أبو سنحريب الآشوري، أبو جاكوب الأرمني، أبو نارت الشركسي،، لكنهم عادة ما يعودون لشرب الشاي والضحك ولعبة النرد.
ثمة محلّلون سياسيون في بلاد العرب يشبهون محلّلي الدم، والبول و غيره في المخابر التجارية الرخيصة.. ينبّهون لوجود داء غير موجود أو يبشّرون بصحّة جيّدة ووهميّة، تفتك بالمريض المغفّل المسكين فور خروجه من مخابرهم.
مررت صباح اليوم بنفس الشحاذين الاثنين أمام الجامع فوجدتهما بكمامتين وهما مستغرقان في النقاش حول “الاقتصاد الموازي”.