أجمل الانتماءات…
أجمل الانتماءات…… أول لمسة وأول همسة وأول صفعة تأتي من الداية (القابلة)، إنها أول امرأة تلتقيها على عتبة الحياة، تسحبك إليها، تصرخ في وجهها احتجاجاً فتمسكك من كاحليك ثم تقلبك على رأسك كي لا تعتاد رؤية العالم من زاوية واحدة بعد أن تقطع حبلاً كان يغذيك في أول تلويح بالعقوبات( الاقتصادية) مستعملة في ذلك أول آلة بشرية مخيفة تلمحها عيناك الناعستان و اسمها المقص.
الداية تعرف الناس قبل أنفسهم وأسمائهم وأهاليهم، تحفظ خرائط أجسادهم وأسرارها شامة شامة ثم تسلمهم إلى مصائرهم.
لو قدر لهذه الأم الثانية أن تحصي وتجمع ذريتها من الذين استمعت إلى صرختهم الأولى لاجتمع لدينا بحر هائل من الدراما غذاه أفراد مروا من بين راحتيها.
عرف عن الداية الشعبية روح الفكاهة و سلاطة اللسان, كيف لا وهي التي تعرفت إلى الناس قبل أن يتعرفوا إلى الأثواب وقبل أن يعتلوا المناصب والألقاب ,لكنها تحتاج إلى زميلة لها عند الولادة، تماماً كالحلاق عند ضرورة حلاقة شعره أو طبيب الأسنان عند قلع ضرسه .
تداعت إلى ذهني هذه الخواطر وسافر بي شرود ممتع بعد أن التقيت سيدة مسنّة و عزباء اسمها (عيشة) كانت تعمل قابلة قانونية في المستشفى الفرنسي بتونس فاشتممت في يديها وابتسامتها أمومة فائضة، إنها صاحبة أول و ألطف صفعة أتلقاها قبل أن أبصر الشمس.
حضنت عيشة مئات الرضع من الأطفال وبشرت مئات الآباء المنتظرين في الممرات لكنها لم تجد الرجل الذي تبشره زميلة لها بعد أن تقطع خيط سرّة ينتمي إليها.
أمر غريب حقا، يخرج الواحد رضيعا من دار التوليد باسم وهوية يرافقانه إلى ما بعد زواله,.. يموت الناس ولا تموت أسماؤهم.
من الناس من يفني حياته مدافعاً عن اسم أو مؤسساً لإسم ومنهم من يحتمي تحت مظلة اسم مسترخياً دون مسؤولية أو عناء ومنهم من يأتي ويمضي غير عابىء بالأسماء، إنها معضلة الهوية والإنتماء بعد أن نغادر حضن (الداية) في اتجاه أحضان كثيرة أخرى كالجنس والأسرة واللغة والدين والوطن.
نولد عراة وتبدأ مرحلة الإكساء ومتاهة التصنيف وحمى التعريف التي طالت الجنس الحيواني فجعل الإنسان للكلاب والقطط جوازات وهويات وعقود زواج تحمل صورها وأسماءها وتاريخ ومكان ولادتها ونوعها وفصيلتها دون أن تطلب منه الحيوانات ذلك.
إن هاجس الملكية التي خلقها حب البقاء هو الذي دفع الإنسان لابتداع فكرة الحدود والهوية والإنتماء ومن ثم المفاضلة بين جنس وآخر عبر تغذية الشعور بالتميز الثقافي – بمفهومه الانتروبولوجي طبعا-.
ثمة أفراد يكبرون ببلدانهم وثمة بلدان تكبر بأفرادها، فالعربي الذي يجوب مطارات العالم ويتجول في مدن الغرب قد يشاهد أشخاصاً لا يستحقون هوياتهم و هويات وجوازات لا تستحق حامليها فيتألم لهذا التوزيع الجائر.
أين تكمن المشكلة إذن؟
كيف يستظل متسكع و أرعن انكليزي أو فرنسي أو نمساوي مثلا بإرث شكسبير و بودلير و موزارت دون أن يعرف أو يتذوق إبداع هؤلاء؟! أليس مثقف الضفة الأخرى أولى بالإمتيازات التي تمنح لهذا المتسكع في بلده؟
أليس لوي ماسنيون الذي حقق كتاب ( الطواسين) أقرب للحلاج ممن صلبوه , أوليس (جاك بيرك) أو (بلاشير) في الشعر الجاهلي أقرب لطرفة بن العبد من ابن قبيلته ؟
لا شك أن أجمل الانتماءات هي تلك التي تخص الأفكار النبيلة وتغوص بك نحو الأعمق وتحلق نحو الأرحب، فكم من انتماء أخجل صاحبه وكم من مبدع رفع من شأن حاملي جنسيته وقال له البسطاء من الناس الطيبين: الله يرحم الداية التي ولدتك.
العنصريون والقطريون قوم صغار لأنهم يحاسبونك عما لم تختره وينظرون في جيوبك قبل أفكارك، الجيوب التي تحتوي عادة على النقود وبطاقة الهوية.
أما الداية فتفرح دائما ولم تقل يوماً لأب وهي تبشّره: لماذا لم تستخدم الواقي الذكري.