أجمل فن غريق في العالم
أجمل فن غريق في العالم .. في الشهر الكريم، يحدث أن يمسك أحد الجاثمين على مائدة الطعام بالكوسة المحشي، يرفعها باتّجاه جهاز التلفزة ويكبس بإبهامه ليغيّر المحطّة… يحدث أن يغمس جاره بـ(الريموت كونترول) في صحن الشوربة ويقضم منه قضمة قد تودي بأسنانه… يحدث هذا في غمرة السباق المحموم بين الأفواه والعيون وتشابك الوظائف الاستهلاكيّة وازدحام الموائد والشاشات بشتّى أصناف الوجبات، الدّسمة منها والخفيفة، الثّقيلة والطريّة، الحلوة والحامضة وغيرها من المقبّلات والمرطّبات والمنبّهات …
لك عزيزي المتفرّج – ورغم قسوة الواقع المعيشي والحياتي – أن تقارب وتزاوج بين ما يؤكل بالأسنان وما يؤكل بالعيون فتختار لصحن الفتّة مثلاً بقعة من بقع (الضوء) ولصحن الفول حواراً عسير الهضم مع نجم تلفزي ولكأس العرق سوس ما يرفع الضغط من الكاميرا الخفيّة، وللـ(فتّوش) برنامج منوّعات وللبرغل مسلسلاً تاريخيّاً وللعوّامة حلقة من حلقات الدراما الشعبيّة التي تجعل الأمرد يمشي في الأرض مطأطأ الرأس خجلاً من عجزه على فتل شاربه.
قد أوضع في خانةالـ( anti tv) ويتّهمني البعض بمعاداة الحالة التلفزيّة، هذا شرف لا أدّعيه وإن كنّا نقدّر عالياً أهميّة دوره الإعلامي… الإعلامي دون شيء آخر فمن اعتبره فنّاً ثامناً فقد ظلم التلفزيون وأراد أن يقحمه في ما لا يعنيه أصلاً.
يعرض التلفزيون، مشكوراً، فيلماً سينمائيّاً أو مسرحيّة كما تنشر صحيفة رسماً كاريكاتيريّاً أو قصيدة أو قصّة قصيرة فهل تغنيك هذه الوظيفة الإعلاميّة عن زيارة معرض أو اقتناء كتاب!؟..
لنذهب أكثر من ذلك، اسمحوا لي أن تكون المقاربات (مطبخيّة) في هذا الشهر الفضيل الذي كنّا نتمنّى أن يكون مناسبة لسموّ الأذواق ونبل المشاعر وحديث الروح قبل حديث المعدة، فالفرق بين المسرح والتلفزيون كالفرق بين الأكل في المنزل والأكل في المطعم… هنا في المطعم تشاركك الأكل حواس أخرى ويشاركك المكان أشخاص آخرون في طقس جماعي احتفالي لا ينسى وتتنوّع الوجبات وطرق التذوّق ويقوم على خدمتك أناس متخصّصون وتحتجّ على نوعيّة الأطباق والخدمات … ولكن، ليس من حقّك أن تزور المطبخ (الكواليس) وليس من اللّائق أن تفرض موسيقاك المفضّلة وليس من المسموح أن تجلس بالبيجاما وليس من الوارد أن تغادر دون دفع فاتورة الحساب (إلاّ إذا كان صاحب المطعم من أصدقائك) وليس من الكياسة أن تتمدّد فوق كنبة …… والأهم من ذلك كلّه أنّك لا تقصد المطعم وأنت صائم أو غير راغب في تناول الطعام.
لكلّ مطعم مميّز طبّاخ مميّز (شيف) ذو نفس مميّز، يقصده الزبون الذوّاقة قبل النظر في الديكورات أو ابتسامة الجراسين أو لائحة الأسعار، كذلك المسرح إذا اعتبرناه كفاف يومنا في أمّة تهدّدها المجاعة الثقافيّة والجفاف الفكري والتصحّر الإبداعي.
كنّا فيما مضى، أيّام كان الأبيض أبيض والأسود أسود كنّا نضع جهاز التلفزة في المكتبة بالصالون وسط الكتب وأشرطة الأغاني واسطوانات الموسيقى ونطفئه احتراماً للضيوف أمّا الآن فصار يحتلّ المطابخ وغرف الصفرة والنوم وحتّى الحمّامات ونشعله تفادياً لموجة صمت قد تخيّم على الحضور، بل وصرنا نصمت في حضرته فلا صوت يعلو فوق صوت التلفزة…
ما هذا الضيف الثقيل الذي احتلّ بيوتنا وأذهاننا وفرض سطوته المرعبة حتّى أنّه صار مرجعيّة للعديد من المثقّفين ومادّة للكتابة فيه وإليه وعليه..!؟..
نعم، ازدهر الفن الهابط كما تزدهر صناعة التوابيت في أيّام الحرب وهاجر إليه روائيون ومسرحيون وتشكيليون وموسيقيون .
من حقّهم أن يفرّوا إلى قارب نجاة اسمه التلفزيون كي يؤمّنوا عيشهم وعيش أطفالهم ومن واجب من بقي أن يصلح العطب قبل أن يشتم المتخاذلين أو يموت كأجمل غريق في العالم…
ليست دعوة لركوب الأعاصير ولا للانتحار الإبداعي ولكن، ألا ترون معي أنّ سحر فينيسيا (البندقيّة) يكمن في كونها مدينة تغرق ببطء وهدوء دون أن تطلب النجدة من أحد.
في كلّ مرّة أعزم فيها على كتابة مسلسل تلفزيّ لتمويل عمل مسرحيّ جديد أصاب منذ الحلقة الأولى بالخدر والإعياء وتزداد قناعتي بأنّ هذه الصنعة عمل عضلي يحتاج الجلد ويعرّض صاحبه لأوجاع الظهر والرأس وربّما الضمير.