أحجيات وأقاصيص وشرود
أحجيات وأقاصيص وشرود … اسمحوا لي بهذه التهويمات التي كتبتها يوماً في شرفة صغيرة تطلّ على شارع بارد وكبير، لكنّه صغير، في أقصر الأشهر أعماراً… شباط الذي تتغازل فيه القطط تحت الحاويات ودواليب السيارات والزوايا الآمنة، تحنو على بعضها برهة من الزمن … ثمّ يمضي كلّ إلى غايته … بمخالعة رضائيّة، دون مقدّم أو مؤخّر ونفقات … دون عتاب أو غضب أو تشكّي:
– يقول الجغرافيون في ثقة شبه تامة: (إنّ البلاد لا تغيّر من عناوينها أبداً…)
يتحفّظ علماء الجيولوجيا بقولهم: (قد يحدث عكس ذلك، بفعل الزلازل وثورات الأرض والبراكين والأعاصير وشتى أنواع غضب الطبيعة التي تخفي قارات بأكملها، وتظهر أخرى… ولكن، على مهل، ربما بعد ألف عام أو ما يزيد).
يؤكّد المؤرخون بأّن الثابت لديهم هو صندوق البريد، أمّا المتحوّل فهو الاسم، والبيت، الحي والجيران … الحالة المدنيّة وقيد النفوس، اللغة والعقيدة والعرق والثقافة وتأثيرات الخارج…. ومفتاح صندوق البريد في أغلب الأحيان.
أمّا الشعراء فيكذّبون حتى الأطبّاء … ويعتقدون جازمين بأنّ كل هذا لا يعنيهم… لأنّه لا يحدث إلاّ داخل قلوبهم التي لا يورثونها إلاّ لنسلهم – من الشعراء – في كل مرّة…. ويضيفون قائلين: (إنّ العشّاق لا يغيّرون من عناوينهم أبداً).
ولكن… أين عنوان العناوين..!؟.
* يخبّر الناس عن حوادث نادرة الوقوع وغريبة المصادفة وقعت في تاريخنا القديم لأحد البشر في غربته قبل أن يلاقي وجه ربّه…. وغالباً ما يكون ذلك قصد استخلاص العبرة واستنباط الحكمة …. ولكن … من أخبرهم عن تلك الحادثة التي لم يشهدها إلاّ صاحبها الافتراضي؟!.
لعلّ هذا ما دعا علماء العصور الحديثة إلى اختراع شيء اسمه (الصندوق الأسود ) المعروف في حوادث الطائرات.
بالمناسبة: الصندوق ليس أسود، بل فوسفوريّ اللون، كي يتسنّى لعمّال البحث والإنقاذ إيجاده بسهولة…. ولكن بعد فوات الأوان.
*يقول حارس محطة القطارات لناظر المدرسة القريبة: (لماذا تعيّر ساعتك اليدويّة على توقيت ساعتنا الجداريّة ؟).
-لكي يعيّر مدير المدرسة ساعته على ساعتي فيأذن للآذن بدقّ جرس المدرسة ويخرج التلاميذ.
– لكنّنا نعيّر ساعة محطّتنا كل يوم على موعد خروج التلاميذ من صفوفهم.
*قال أحدهم للآخر:(كيف يخبر الأخرس صديقه الأعمى بأنّ أباه قد مات؟)
ردّ عليه الثاني بالجواب الصحيح، ذهل الأوّل وقال :(كيف عرفت ذلك!؟)
فأجاب: لقد أخبرني الأعمى بذلك… هيا بنا لتقديم واجب العزاء.
*كان (هبنّق ) رجلاً يعيش في جهالة دامسة ويضرب به المثل في الحماقة فيقال(فلان أحمق من هبنّق).
كان (هبنّق) يضع قلادة في رقبته ليميّز نفسه عن أخيه، جاء الأخير وأخذ القلادة منه وهو نائم ثم وضعها في رقبته، وعندما استفاق (هبنّق ) خاطب أخاه قائلاً: (أنت أنا، أمّا أنا فمن أنا؟!).
ظلّ الرواة يضحكون لهذه الحادثة ويتفكّهون بها في أحاديثهم ومسامراتهم إلى أن جاء فلاسفة الوجوديّة وجعلوهم يضحكون من ضحكهم.
*كان الطفل مستغرقا في مشاهدة ألبوم زفاف والديه، وفجأة سأل أباه بقوله: (أبي، لماذا تلبس أمي الثوب الأبيض في حفل العرس؟
-لأنّ الأبيض لون الفرح والسعادة يا بني.
-ولماذا تلبس أنت اللون الأسود !؟.
*تخيلوا لو فكّر كلّ واحد فينا في أقصى لحظة خجل من نفسه وبينه وبين نفسه، مرّت عليه في حياته…..
ترى، كيف يمكن أن تكون عليه نظراتنا ولقاءاتنا ومصافحاتنا ومحادثاتنا وكتاباتنا وعلاقاتنا، مرايانا، كاميراتنا وميكروفوناتنا … وخجلنا من خجلنا.
حقّاً، إنّ الخجل يمنحك قدرة هائلة على مراعاة الآخرين والتفكّر في ظروفهم…. لولا الخجل لتعالت أصوات الناس أكثر ممّا هي عليه
الآن .
*ترى، كم عاشقاً سيبقى في هذا العالم لو اخترناه وفق مقولة (الحب لأجل الحب)؟
كم فنّاناً سيخلد لو حاسبناه وفق قاعدة: الفن لأجل الفن…
كم كريماً وثائراً ومقداماً وقاتلاً وشامتاً وساخراً وضاحكاً ولاعباً ومقامراً وباكياً وخانعاً وغاضباً وحانياً … لو فرزنا كل واحد فيهم على خلفيّة الصفة التي خدمها دون خلفيات أو مبرّرات أخرى.
سيبقى السؤال الإغريقي القديم خالداً ومتجدّداً في تراجيديا الإنسان إنه:
كيف ومتى ولماذا.
شكرا أيتها القطط وإلى اللقاء.
13.11.2013