أستوديو العودة
“أستوديو العودة” محلّ تصوير فوتوغرافي قديم يمتلكه العم أبو خالد ويقع في مخيّم جنين على مشارف تلك المقبرة التي تكبر وتتسع وتزحف نحو الأحياء، على إثر كل رصاصة إسرائيلية، أو صرخة احتجاج فلسطيني.
يختفي أبو خالد بكوفيته المزمنة وأصابعه المرتجفة وراء آلة تصوير عتيقة، مثقلة بذاكرة الوجوه، وخلف نظارات تزداد سماكتها مع كل خيبة، لكنه مازال يري ما يريد، مثل صقر عجوز، مثل أمل يقتات من حافة اليأس.
المقعد الذي يجلس إليه طالبو الصور الشمسية والباحثون عن الأوراق الثبوتيّة لا يتزحزح من مكانه، كذلك الشهداء والموتى والمفقودون وأبطال المعارك من أولئك الذين تحطّ صورهم على الجدار، مثل كهف مسحور، فكأنّما الأمر مقبرة داخل مقبرة، تتناسل كحواجز التفتيش ونقاط العودة والاستفهام.
يبدو الأمر – إلى حدّ اللحظة- اعتياديّاً ومنطقيّاً داخل الملحمة الفلسطينيّة التي تفوّقت على كل ضروب الشعر، لكنّ المريب هو أنّ من يجلس على كرسي (أستوديو العودة) ماثلاً في مواجهة كاميرا (أبو خالد)، يجد نفسه عبوساً حين يطلع من حوض التحميض رغم امتثاله لتعليمات سيّد المكان بقوله الدائم (ابتسم قليلاً)…. والأكثر من ذلك، يجد وجهه (نصف وجه) بعد أن زاحت كاميرا أبي خالد عن مطرحها بفعل أصابعه المرتجفة ونظراته الواهنة من خلف الزجاج السميك.
أمّا الأكثر غرابة ومدعاة للدهشة هو أن لا يعود زبائنه للمحلّ مطالبين بصورهم بعد استشهادهم. عندها، يكتفي أبو خالد- وعلى حسابه الخاص- بتكبير صورهم داخل إطار يليق بابتسامتهم المستحيلة، وقد شقّ أعلاه بشريط أسود كان قد استعاره من جاره بائع الأقمشة الذي ينتظر مقصّه بدوره فستان فرح مؤجّل، ويكتفي ببيع الأعلام والأكفان.
لكنّ الكوميديا السوداء تتعلّق بمستحقّات أبي خالد الماديّة وقد وجد نفسه داخل هذه المأساة شبه منبوذ، شبه محرج، شبه معدم، ولا غنى عنه في ذات الوقت، مثله مثل بائعي التوابيت والأكفان والمقرئين أمام شواهد القبور.
من الصادق في مثل هذه المعادلة؟ آلة التصوير، أم آلة الزمن، أم آلة الخيال الذي تبادل الدور مع الواقع وصار يلهث خلفه.
كان هذا ملخّص شريط سينمائي كتبته منذ سنوات ثمّ أصبت بخيبة أمل حين شاهدته منفّذا بطريقة مسطّحة، لعلّه نفس قدر الصور التي يلتقطها أبو خالد ثم يخرجها متجهمة وعبوسة من حوض التحميض.