أفريقيا تمارس العنصرية ضد أبنائها
ماذا يعني أن تأخذ قارة، بأكملها، اسمها من بلد صغير ينتمي إليها؟
هذا هو حال أفريقيا وعلاقتها بتونس التي عُرفت في التاريخ القديم باسم “أفريقيّة” أي بلاد “الفريكة” أو القمح، وفق التسمية الرومانية القديمة كما تؤكد بعض المصادر التاريخية، وعليه فإن الأجدر بتونس أن تكون الحاضنة والعاصمة الموحدة للشتات الأفريقي.
أمر في غاية التراجيديا أن تصبح “أفريكا” الملقبة بـ”مطمورة روما” هي التي تبحث عن لقمة عيشها في بلاد الرومان، بعد أن كانت المقصد الذي لأجله تشق أساطيل روما عباب المتوسط.
ألا يكفي هذا التشريف الجغرافي والتاريخي حتى تكون تونس قبلة الأفارقة وهي التي ساهم زعيمها الحبيب بورقيبة في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية بالعاصمة الإثيوبية سنة 1963، ويعتبر واحدا من أبرز رجالات هذه القارة، وداعما أساسيا لقوى التحرر فيها.
أليس الأجدر بهذه القارة السمراء الفتية التي تشبه في خارطتها القلب النابض، أن تلتفت إلى مشاكلها عبر مشاريع تضامنية بدل أن تنهش لحمها بأسنانها، ويلعب كل مضطهد دور الجلاد على من هو أكثر بؤسا واضطهادا منه
وتجدر الإشارة إلى أن تونس تعدّ أول بلد ألغى العبودية والرق بوثيقة رسمية في العالم، وذلك في 23 يناير 1846، على يد أحمد باشا باي، عاشر الملوك الحسينيين. وسبقت تونس بهذا القرار الولايات المتحدة وفرنسا، حيث سجلت تجربتها في ذاكرة العالم من طرف منظمة اليونسكو.
وعلى الرغم من هذه الريادة التاريخية، فإن هناك جراحا لم تندمل في علاقة تونس بالعنصرية التي أدمت القارة السمراء، من حيث كونها نقطة عبور لقوافل تجارة الرق نحو أوروبا وأميركا، وكذلك مسرحا لأحداث مازالت تتجدد حتى وإن حاول البعض التعامي عنها.
هل نلعن الفوتبول الذي أيقظ الفتنة العنصرية النائمة على إيقاع طبول كأس الأمم الأفريقية هذه الأيام أم أن في الأمر تعقيدات بالجغرافيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
تعالت في الأشهر وحتى السنوات الأخيرة بتونس، أصوات أقل ما يقال فيها إنها ناشزة، تنادي بـ”إيجاد حلول” لوضعية الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء إلى البلاد التونسية وقد تكاثرت أعدادهم بشكل ملفت وتسببت في بعض القلاقل الاجتماعية وغيرها.
الحقيقة أن هؤلاء لا يتجاوزون بضعة آلاف في بلد يضم حوالي 12 مليون ساكن يشكل ذوو البشرة السوداء من التونسيين نسبة هامة منهم، على غرار الحوادث الطريفة التي تحكي عن الخلط غير المقصود والالتباس في الجنسية بين التونسيين السود والمقيمين من أفارقة جنوب الصحراء أثناء حضور مباريات كرة القدم الأفريقية في المقاهي الشعبية.
التونسيون في غالبيتهم، يأخذون هذا الموضوع على محمل الممازحة ويكنون لذوي البشرة السوداء محبة خاصة، حتى أنهم يتفاءلون بظهورهم في الصباح، ويلقبونهم بـ”الكحاليش” على سبيل التودد، وليس العنصرية كما يروج البعض.
“كيف يتنصّل الأفريقي من أفريقيته؟” مسألة تبدو مجرد مزحة في بلد أعطى للقارة اسمه القديم، لكن ما يحدث وتردده الألسن هذه الأيام، من داخل تونس وخارجها، حول التململ من الأفارقة لم يعد مزحا بل وقائع يجب التوقف عندها والبحث في مسبباتها وخلفياتها، دون أن نتغافل عما تحركه وتحضّر إليه جماعات الإسلام السياسي.
وزاد عن هذا كله أنّ “أمنيين” يدقون ناقوس الخطر حول تفاقم نسبة الجريمة التي تورط فيها أفارقة في تونس كما تقول مصادر إعلامية محلية تفتقر جميعها إلى موظف واحد من ذوي البشرة السوداء.
أمر طبيعي أن تزيد نسبة المخالفات مع تزايد نسبة الوافدين، لكن لا مبرر لحركات التنمر والتذمر، واتهام الأفارقة بأنهم “أصل البلاء” كما يقول المرضى والمعقدون في هذه البلاد التي عرفت بتسامحها وانفتاحها منذ فجر التاريخ.
صحيح أن أفارقة ومن بلدان مختلفة الثقافات جنوب الصحراء، قد تورطوا في جرائم ومخالفات كالشعوذة والسرقة والاحتيال، وحتى التهريب والانضمام إلى جماعات متطرفة، لكن الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه ثم إن التعميم لغة الحمقى.
أليس التونسيون بدورهم يعانون في أوروبا مما يمارسونه هم أنفسهم، وفي بلادهم ضد الأفارقة الذين يعتبرون إقامتهم في تونس محطة عبور نحو الضفة الأخرى.
إنها لمفارقة غريبة أن يلعب الضحية دور الجلاد، وذلك من خلال دور يشبه ما أقدمت عليه خادمة في قتل زميلتها ضمن لعبة تبادل الأدوار في مسرحية “الخادمات” للفرنسي جان جينيه.
ثقل الأوضاع المعيشية يجعل الأفريقي يهاجر إلى تونس ويشتغل فيها بأعمال هامشية مقابل بعض الدينارات، والسبب نفسه هو الذي يجعل التونسي المتأفف في بلاده، يجازف بحياته ويتخلى عن كرامته أحيانا للوصول إلى بلد أوروبي يعاني سكانه من ذات الأزمات.. أليس في الأمر ضرب من الفانتازيا؟
أليس الأجدر بهذه القارة السمراء الفتية التي تشبه في خارطتها القلب النابض، أن تلتفت إلى مشاكلها عبر مشاريع تضامنية بدل أن تنهش لحمها بأسنانها، ويلعب كل مضطهد دور الجلاد على من هو أكثر بؤسا واضطهادا منه.