أوصياء على ثورة لم يشاركوا فيها.
أوصياء على ثورة لم يشاركوا فيها. …غريب أمر الحركات الاسلاميّة التي جاءت إلى سدّة الحكم في دول الربيع العربي , أودعتهم فئات عريضة من المحرومين والمهمّشين والمتحمّسين والمخدوعين ثقتها في صناديق الاقتراع فقابلوها بمزيد من التنكّر والاستعلاء واستبداد الرأي.
ما إن بدأت هذه النخب الحاكمة حديثا بلعق عسل القيادة والاسترخاء خلف دفء المكاتب والتبرّج فوق المنابر وتحت الأضواء حتى انتبهت إلى وجوب (دوام النعمة ) و(ضرورة حفظها) من كل مارق و(شيطان رجيم) .
نظروا إلى هراوات الأمس التي صارت اليوم بحوزتهم فوجدوها الطريقة الأنسب لمعالجة قضايا من (تحكّهم ظهورهم ) , تأمّلوا في مخازن قنابل الغاز فلم يشاؤوا أن يبخلوا بها على أولئك الذين لم تجفّ دموعهم بعد …وتحت الشعار القديم المتجدّد :(العصا لمن عصا ) ,مضوا يقنعوننا ويقنعون أنفسهم بأنّ (إرضاء الجماهير غاية لا تدرك ).
يسأل الآن فتياننا وفتياتنا من الذين كانوا بالأمس القريب براعم تتفتّح وتنتشر في الشوارع والساحات وتبشّر بقدوم الربيع دون خطب مدوّية : أين كان يختفي هؤلاء الأشباح حين صرخت في عروقنا دماء الغضب ؟ ! , هل سمعوا جيّدا ما كنّا نهتف به ونضرب ونقتل لأجله ..إنها ثنائية الكرامة والحريّة …هل أنّ ثورتنا كانت مجرّد مطيّة سهلة الركوب والانصياع إلى قصور الرئاسة ,كيف يتنكّر إلى مطالبنا من جاء يحكم باسمها ,أم أنّ الكراسي تصيب أصحابها بالطرش والعمى والنسيان ؟!
الذين نزلوا إلى الشوارع والميادين كانوا عزّلا من الشعارات والأسلحة …ومع ذلك ,لا ينكر أحد أنّ بعض جماعات الاسلام السياسي قد تعرّضت مع غيرها للاعتقال والملاحقة والتهجير على أيدي الأنظمة الشموليّة التي قامت على الظلم والفساد , ولكن , هل نسيت هذه الجماعات الآن أنّ (أشرس ) المدافعين عنها آنذاك كانوا من نشطاء المجتمع المدني ,وأغلبهم – بالمناسبة – من تنظيمات يسارية وتعبيرات نقابية وتيارات ليبرالية وعلمانية ..رغم تباين الأطروحات السياسية والايديولوجيّة.
هل هكذا يجازى من آمن بمقولة فولتير : (أختلف معك في الرأي ,لكنّي أدافع عنك حتى الموت كي تقول رأيك ) ؟! , هل صار حليف نضال الأمس ملحدا كافرا مارقا يستباح دمه الذي سال من أجل (حريتك الآن ) في التخوين والتكفير وتوزيع صكوك الوطنيّة والتقوى يا من يسعى لمبايعته كأمير للمؤمنين ..؟!.
لعلّ بعضهم يظنّ أنّ صناديق الانتخاب هي مراكب طارق بن زياد التي عليهم حرقها فور وصولهم إلى (أندلس الخلافة ) ,وأنّ الديمقراطيّة هي (ديمومة الكراسي) كما جاء في تنظيرات وتعريفات العقيد المغفور له .
نعم , لقد سمعنا الكثير من قياداتهم يتبجّحون علنا بأنّ الديمقراطيّة بدعة مآلها النار والاندثار ,يصرّحون بهذا وأصابعهم مازالت مضمّخة بحبر الانتخابات …!!
لقد بدؤوا بطمر الينابيع والعيون التي شربوا منها كي يحوّلوا البلاد إلى صحراء بعد أن كانت شبه جرداء …ومن ثمّ ينصّبون أنفسهم سلاطين أبديين على ممالك من عطش وأرض من يباب ….ولكن…
فات هؤلاء (الأغرار) من حديثي العهد بالسياسة ودهاليزها أنّ ما آل إليهم لم يدم لغيرهم ممن ظنّوا أنّ حكمهم قد استتبّ تحت العصيّ ,وأنّ الجماهير التي استفاقت من غفوتها في تونس ومصر وليبيا ,جاهزة للتوثّب ثانية على مبدأ (إن عدتم عدنا ) وأنّ ذقون الناس لم تعد ألعوبة لمن يريد الزجّ بالدين في بورصة المصالح السياسية.
كلنا مؤمنون والحمد لله – وإن قصّر بعضنا في أداء شعائره الدينيّة – , كلّنا عانينا من الأنظمة التي تمّ الإطاحة بها وصارت في ذمّة التاريخ ,فلم المزايدات والمحاصصات وكأنّ البلاد غنيمة حرب وحكّامها المؤقتين الآن مبشّرون بالجنّة ونحن خلفهم رعيّة نأتمر بما يأمرون.
لن يستقرّ الأمر في مصر وتونس ما لم تقتنع نخبها السياسية الحاكمة بأنها جزء من الشعب وليس الشعب وأنّ من يعارضها لا يتزعّم (ثورة مضادّة ) وليس من فلول العهد السابق وغيرها من الكليشهات الشمّاعة والتّهم الجاهزة …إنها طبيعة الحكم في المجتمعات الديمقراطية التي لا تستقيم دون معارضة دائمة ومراقبة مستميتة من جميع المكوّنات السياسية والمدنية.
ومهما يكن من أمر ,فلا بأس من الهنّات والعثرات لأنّنا مازلنا نحبو على بساط الديمقراطية الطويل ونتعلّم من تجارب من صار اليوم يمرد ويخطو ويمشي ويركض..ويطير ..ولكن دون استيراد وصفة جاهزة أو ادّعاء امتلاك الحقيقة ومحاسبة الذات قبل الآخر.
• قصّة في الزحام :كرّر كبير الكهنة سؤاله لخادم المعبد الفقير أمام مذبح الاعتراف دون جدوى : اعترف أنّك سرقت الجزر من حديقة المعبد أيها اللص الخائن…لقد لمحتك بعيني.
• – الخادم : أقسم لك يا سيدي أني لم أسمع سؤالك ,وإذا أردت التأكّد فتعال ,جرّب واجلس محلّي .
• – الكاهن : حسنا ها قد جلست محلّك ,اسألني ما تريد
• – اعترف يا كبير الكهنة أنّ زوجتي قد خانتني معك أكثر من مرّة,لقد رأيتك بعيني.
• – الكاهن : الحق معك أيها الخادم ,من يجلس على هذا الكرسي لا يسمع شيئا…انصرف ,لقد سامحتك.