الحفظ ثم النسيان..هل هي حقّا وصفة الإبداع السحرية..؟
الحفظ ثم النسيان.. هل هي حقّا وصفة الإبداع السحرية..؟ لا بأس, سنذكّر بالحكاية من جديد لآخر من لم يقرأها أو يسمع بها من قبل,تقول الحكاية التراثيّة و-المفبركة غالبا- أنّ أحد المبتلين من المصابين بلوثة الشعر قد قصد شيخه في حلقات الأدب يسأله: ما السبيل لأصبح شاعرا؟ ..دلّني. .يدي بزنّارك .
ردّ المعلّم بعد أن فرك عمامة رأسه: (عليك بحفظ عشرة آلاف بيت لفحول الشعراء من قبلك ثمّ تأتي لننظر في الأمر).
فعل طالب الشعر بنصيحة شيخه بعد أيام وليال قضّاها في البحث والسهر والحفظ، جاء أستاذه وألقى على مسامعه عشرة آلاف بيت (شخصيّا لا يمكنني أن تخيّلها حتى وإن كانت بيوتا سكنيّة).. فرك الشيخ عمامته من جديد أمام مريده ثم قال:عليك أن تنسى ما حفظته من شعر لتبدأ الكتابة من جديد، عندئذ، أعلنك و(أطوّبك) شاعرا لا يشقّ له غبار.
هذه الحادثة المزعومة أثارت في رأسي الصغير(غير المعمّم) أكثر من عشرة آلاف سؤال.. سأكتفي بما يحضرني منها الآن، رغم أنّها وصفة شبه معروفة، شبه بديهيّة … وشبه مستحيلة
الغريب في الحادثة أنها تكاد تكون وصفة شعبيّة مجّانيّة، لا تحتاج إلى فحص أو معاينة … تماما مثل البابونج والنعناع وإكليل الجبل .. وأقراص الأسبرين وغيرها من المستحضرات التي تنصح بها العامّة ويصفها ممرّضو المستوصفات الريفيّة.
– أوّلا: لماذا لا يطبّق الأستاذ هذه الوصفة السحريّة على نفسه، (بما أنّها سهلة نسبيّا) وهو العارف والناصح والضليع …هل يتأفّف من صفة الشاعر ويريد الاحتفاظ بصفة المرشد الواعظ الناقد، أم أنّ ملكة الحفظ لديه ضعيفة؟!.
– ثانيا: أيّ شاعر هذا الذي يترجّل عن صهوة موهبته ليسأل الآخر- وإن كان مدرّسه-: (كيف لي أن أصير شاعرا).!…ألا يعلم أنّ الشعر يختار ضحاياه الشعراء وليس هم من يختارونه.
– ثالثا: إذا كان المراد من متلازمة (الحفظ والنسيان) هو صقل الذائقة ثمّ التفرّد بالصوت الواحد وعدم التقليد فإنّ صاحبنا الأستاذ قد فاته أنّ شخصاً سوف يأتي بعده اسمه (سيغموند فرويد)، يكشف الحجاب عن شيء اسمه اللاوعي .. وأنّ شاعراً بعليّاً مثل التين البرّي سوف يأتي في منتصف القرن العشرين.. اسمه محمد الماغوط.
– رابعا: أليس جديراً بهذا الشاعر الغر- وأستاذه (الأغر)- أن يتعلّم من صروف الدهر قبل أن يتعلّم من عشرة آلاف بيت قالها شعراء سادوا ثمّ بادوا، و لم يعودوا واقفين على تخوم الحياة، مثله هو: الآن وهنا؟!.
– خامسا: كيف للحداثيين والمعاصرين والمجدّدين أن يصدّقوا هذه الحادثة وبين أيديهم أجهزة كمبيوتر تحفظ مئات الآلاف من الشعر ثمّ تنساه بكبسة زرّ واحدة…هل نصنّف الشعراء حسب الشركات المصنّعة للحاسوب.
– السؤال رقم عشرة آلاف وواحد: لم يخبرنا الرواة الثقاة إذا كان هذا الشاعر قد عاد إلى أستاذه أم لا..!.. وإن كان قد عاد, فما اسمه؟…أغلب الظنّ أنّه قد عاد…عاد منهزماً وناسياً لاسمه، لبحور الخليل، ولليوم الذي فكّر فيه بالشعر، عاد فوجد أستاذه قد مات بفعل الوقت الذي قضّاه في الانتظار ..انتظار النسيان… رثاه بما تذكّره من (العشرة آلاف بيت).. وسكت.