الرصيف في الثقافتين العربيّة والغربيّة
الرصيف في الثقافتين العربيّة والغربيّة …سمعت يوما مكبّر صوت ينبعث من سيّارة لدفن الموتى يصيح في المشيّعين بعد أن قطع أدعيته على حين فجأة: (اطلعوا على الرصيف يا جماعة, ما معنا فرام, اللّي بيموت بيروح من كيسه) ثمّ عاد ـ وبتكنيك ملفت ـ إلى مزاولة مهنته التي نخشاها ونحتاج إليها ـ غصبا عنّا ـ في آخر صفحة من حياتنا.
عدت إلى بيتي الذي كان يتوسّط مقبرة الدحداح الدمشقيّة ويحاصره موت كثير ثمّ عكفت على كتابة مسرحيّة (اسماعيل هاملت) التي كان بطلها مغسّلا للأموات بعد أن كان مكيّسا في حمّام السوق في رحلته القدريّة لقراءة الجسد الإنساني حيّا وميّتا.
يكشف اسماعيل كلّ خفايا وأسرار الجسد المسجّى أمامه من وشم وعجز واستعلاء ويحاور أصحاب تلك الأجساد و يشاكسهم و ينتقم منهم وهم في عليائهم, أمّا التقاطع مع هاملت شكسبير فلأنّه جاء هذا اليوم ليغسّل جثّة عمّه الذي ظلمه كثيرا.
أقول اليوم لنفسي بعد مضيّ أكثر من عقد ونيف على تلك المسرحيّة التي طافت بلاد العالم: شكرا لذاك الصوت المنبعث من سيّارة دفن الموتى ذات يوم غائم وبائس… وذات رصيف حنون ودافئ.
شكرا لكلّ أصدقائي الرّصيفيين ـ الأحياء منهم والأموات, الطيبين منهم والأوغاد ـ ,- أكرهكم أحيانا – لاّنّكم أنتم دفعتوني للكتابة غصبا عنّي.
الرصيف هامش في صفحة مكتظّة اسمها المدينة, صفحة يزدحم فيها الكلام والمسرعون إلى حتفهم.
الرصيف ضفّة نهر معدني نقطعها مرارا خائفين ومذعورين كالفئران تحت الزمامير والصّافرات والأضواء,(أعرف فتاة دهستها دابّة معدنيّة لأنّها كانت تعبر من رصيف إلى رصيف لأجل معانقة حبيبها المنتظر والمتغيّب منذ سنوات ).
الرصيف لا يعترف إلأّ بالأحذية المرهقة والمنتظرين ومع ذلك تتعدّى عليه دواليب السيّارات التي صنعت كي تخالف.
غنّى له (جاك بريل) و(لوي فيري) و(فرانك سينترا) وفيروز.
وحده الرصيف يحفظ أرقام أحذيتنا ودموعنا وتيهنا, هو من أحجار صبورة بينما الطريق من زفت قاس وعديم الإحساس.
وقفت فوقه (عيشة) العانس زهاء ثلاثين عاما بوردتها الحمراء تنتظر حبيبها الذي وعدها على السّاعة (الثانية والنصف) لتهرب معه خطيفة ,ولم يأت…ولكنّه سوف يأتي…هكذا كان يقول لها الرصيف.
علّم ماسح الأحذية أبا عرب كيف يقرأ الآخرين من خلال كنادرهم وكيف عليه أن لا ينظر إلى الأعلى كثيرا.
نبّه صلاح صلّوحة ـ الورّاق الأشهر في الشام ـ كيف يقرفص مثقّف حقيقي على الرصيف ويلتهم صفحات من كتاب لا يمتلك ثمنه الزهيد في غفلة منه ومن الزمن.
كنّا نلوم دمشق على ضيق أرصفتها فأصبحنا نشكرها على ذلك لأنّها تسمح لنا بالمكاتفة والتحيّة والعناق.
الذين يتّخذون من الرصيف بيتا وعالما وفضاء معرفيّا في باريس, اصطلح الناس على تسميتهم ب(الكلوشار) نسبة إلى (سانت دي كلوش), النبيل الذي كان يجمعهم كعروة الصعاليك في تكيّة خاصّة ويقدّم لهم وجبة من الحساء والكونياك الشعبي لمقاومة قسوة البرد وأصحاب السطوة الماليّة.
صاروا الآن معلما من معالم عاصمة الثقافة والتنوّع وصار واجبا على السائح أن يقدّم لهم بعض النقود مقابل أن يلتقط صورة إلى جانبهم مع غيتاراتهم وكلابهم وشعورهم الحرّة ومفرداتهم النّابية.
عندما اضطرّت البرجوازيّة الغربيّة إلى الارتفاع بعماراتها إلى السماء احتاجت إلى الممرّات والسراديب والدهاليز تحت الأرض فسكنها أناس العالم السفلي ليلا وخرجوا إلى الأرصفة نهارا ونشأت ثقافة (الاندر غراوند),التحتيون بكلّ معاناتهم وصرخاتهم التي يفترسها الزحام.
أنشأت هذه الثقافة أسماء كثيرة في عالم الموسيقى والمسرح والرسم والشعر والغناء واقتحم بعضهم صالونات الثقافة ومشوا فوق السجّاد الأحمر وتحت الأضواء ومات الكثير منهم كما تموت الجراذين.
أمّا في عالمنا العربي فلا وجود ل (أندرغراوند) ,لأنّه لا وجود لميترو أنفاق وما يمكن أن يرافقه من بنى تحتيّة كالمتاجر و أنفاق الممرّات ومآوي السيّارات أو حتّى الصّرف الصحي.. فلا مكان للمهمّشين غير الأرصفة التي بدأت تضمر وتضيق و يقضم منها المستكرشون لصالح المتاجر والبنايات وأصحاب السيّارات العريضة.
ليس الأمر دفاعا عن فئة الرصيفيين فمنهم الوغد والسّافل والأرعن وعديم الأخلاق ولا يجمعهم إلاّ الرصيف , لكنّها فئة همّشها المجتمع بل سحقها تحت دواليبه دون أن يستخدم الفرامل, فرامل اسمها الإحساس بالآخر.
هذه هي الحياة, لعلّ لكلّ رصيف (رصيف آخر) ينظر إليه بفوقيّة واستعلاء.
*تنزيه :
الأمثلة التي وردت عن حكايات (رصيفيّة) هي قصص وردت في مسرحيات كتبتها سابقا.