الحدث الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في تونس الأسبوع الماضي، لم يكن سياسيا ولا رياضيا ولا فنيا بل “بيرّويا” بامتياز أي نسبة إلى مشروب البيرة ، نقيع الشعير الشهير الذي يدمنه كم هائل من التونسيين، وتقام لأجله ـ وبسببه ـ الأحاديث والنقاشات والخناقات والخلافات الزوجية.
الذي صنع الحدث هده المرة هو شاحنة محملة بصناديق البيرة تعرضت إلى عطب ميكانيكي في حي شعبي جنوب العاصمة التونسية وقد تجمع حولها عدد من الأشخاص ثم انطلقوا في عملية نهب محتوياتها بشكل هستيري شارك فيه كهول وشبان وحتى نساء سافرات ومحجبات.
الحادثة أثارت موجة عارمة من ردات الفعل تراوحت بين الاستياء والتنديد، والتندر والسخرية الممزوجة بالابتهاج والتشفي، وكذلك وصل الأمر حد التشكيك في العطب الفني والاستناد إلى نظرية المؤامرة في السؤال عن جدوى مرور شاحنة البيرة من طريق غير مألوفة، تمر من حي شعبي وليس في وجهتها أي مطعم سياحي معروف.
أكثر من ألف “لماذا” رافقت التعليق عن الحادثة في المقاهي والحانات ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى خطب المساجد يوم الجمعة. وأدلى كل بدلوه وبحسب موقعه واهتمامه، وحتى أهوائه السياسية والأيديولوجية.
السلطات الأمنية والقضائية باشرت التحقيق في الواقعة وقالت إنها ألقت القبض على أربعة من المتورطين في الواقعة من بينهم امرأتان، وذلك بالتعرف إليهم من خلال مقاطع الفيديو المصورة على عين المكان.
ومن بين تلك المقاطع ما أخذ على سبيل السخرية كالشاب الذي يخبر أمه على الموبايل بأنه لم يجد في السوق الزيت ولا الحليب فعاد لها بالبيرة، والزوجة التي تمسك بصندوقين من البيرة وتبشر زوجها بأن الأمور قد فرجت.
ومهما اختلفت التحليلات والقراءات التي تنبه لأزمات أخلاقية واجتماعية واقتصادية وغيرها، فإن “واقعة الشاحنة المترنحة”، وعلى الرغم من الإدانة القانونية الصريحة، تكشف عن بعدين متناقضين في شخصية الفرد في مجتمع مأزوم لا ينفصل عما يحدث الآن في العالم بأي شكل من الأشكال.
النصف الفارغ من الكأس يتمثل في حدة الأزمة التي جعلت هؤلاء السكان المسحوقين اجتماعيا يتعاملون مع الشاحنة كغنيمة في حربهم مع الخصاصة حتى وإن كان الأمر يتعلق بمشروب مسكر.. فلربما استفادوا من بيعه أو مقايضته، خصوصا وأن البيرة غالية الثمن وفخ ضريبي خطير يستحي الناس من الخروج في مظاهرات بسببها.
أما النصف المليء من الكأس فإن هذا المجتمع المحتفي بالحياة رغم وجهها العابس، يعرف أنه سيغفر لنفسه مثل هذه الأخطاء والانفلاتات لحظة غضب، وذلك في محاولة لاصطياد حالة بهجة، وإن حظرها القانون والأخلاقيات العامة ثم هل كان سيحدث هذا لو تعطلت الشاحنة في حي بورجوازي؟
السؤال متعدد الأوجه والاتجاهات هو: هل كانوا سيفعلونها مع شاحنة محملة بالمواد الغذائية أو حتى العطور وأدوات الزينة؟ ألا يكشف الأمر عن “جرأة ما” مدانة لكنها محببة ودون أدوات زينة.