الطبخ أو الثقافة المسكوت عنها
الطبخ أو الثقافة المسكوت عنها .. المطابخ, يا لهذا (الكواليس)الرّهيبة التي تعدّ فيها كلّ وصفات الحبّ والطّعام والدسائس والتلصّص والأحلام والتّحضير لكلّ شيء.
المطبخ أوّل مكان نبحث عنه ونطلّ عليه برؤوسنا و جوارحنا حين نودّ شراء بيت أو استئجاره أو حتّى تخيّله.
عفوا, لن يتفذلك أحد علينا ويقول إنّه يبحث في البيت عن المكان الذي سوف توضع فيه المكتبة والجدار الذي سوف تعلّق فيه اللوحات والزاوية التي سوف تحتضن البيانو.
لا ينكر معظمنا أنّه يتعرّف إلى حاملة الصّحون قبل حاملة الـCD ويستمع إلى سمفونيّة الطناجر فوق النّار قبل موزارت ويهتمّ إلى زقزقة عصافير البطن قبل زقزقتها في البساتين وقد يفضّل أن يحضن زوجة طاهية تفوح منها رائحة الثوم على أخرى(حوبة) و إن فاحت منها عطور باريس.
قيل أنّ الزوجة المثاليّة هيّ الطاهية الماهرة في المطبخ والليدي في الصالون وحفلات الاستقبال والمغرية لبعلها (حلالها) في غرفة النوم ولا حياء في الدين, فتخيّلوا وتوقّعوا ـ لا سمح الله ـ خللا في توزيع هذه الوظائف والأدوار كأن تكون طبّاخة في غرفة النوم و ليدي في المطبخ ومغرية جدّا أمام المدعوين والأصدقاء في حفلات الاستقبال!!..
قد تستاء جماهير (الفيمينيست)أي مناصري المرأة من هذه المقاربات الرعناء, اطمئنّوا فالمرأة تطبخ وتنفخ وتحب أيضا وتفكّر وتخانق وتفتح الكلمات المتقاطعة في ذات الوقت وهذه ـ لعمري ـ قدرات لا يتمتّع بها الذكر الصنديد.
لماذا تمتعض المرأة من امرأة تطبخ على محطّة تلفزيّة وسرعان ما تقلب إلى أخرى فيها رجال يطبخون ويزيّنون ويعالجون …فتتابعهم باهتمام شديد؟!..
هذا سؤال في عهدة المرأة على كلّ حال..
مريول المطبخ ـ على عكس كشتبان الخياطة ـ لم يجعل له مصمّموه ومفصّلوه مواصفات أنثويّة أو ذكوريّة, يرتديه الجنسان بكلّ بهجة وسرور ويبدأ كل واحد بممارسة أعرق وأخطر ثقافة عرفتها البشريّة, ثقافة الطبخ, لا صوت يعلو فوق نداء المعدة, بيت الداء والدواء, هذه حقيقة لا ينكرها حاقن.
قل لي ماذا تأكل وكيف تأكل أقول لك من أنت, لقد ألّفت الكتب وأقيمت المسابقات وبنيت الحضارات وقامت الخلافات وفشلت زيجات وفضّلت بلاد على بلاد بسبب فلسفة الطبخ… قد لا يستحمّ المرء في اليوم الواحد وقد لا يصلّي وقد لاينام وقد لا يقرأ وقد لا يتكلّم , ولكن هل يبقى دون أكل؟!..
يعلم العالم بأسره وعبر تاريخه أنّ أشدّ سلاح احتجاج هو الإضراب عن الطّعام وليس عن القراءة أو الرقص أو حتّى العمل,فلماذا ينظر بعضنا إلى الطبخ والأكل باستهجان كما ينظر جاحد إلى صحن فارغ بعد شبع.
لو كان يستطاب العيش في منازل دون مطابخ لفضّلنا الحياة في الفنادق, ما أروع منظر الطهاة بأزيائهم البيضاء كملائكة الرحمة وقبّعاتهم الفارعة كملوك الفراعنة وهم يعدّون خلطاتهم السحريّة ويزاوجون بين المذاقات والألوان ويصنعون أمزجة وأطباقا تطير بك إلى مختلف أصقاع العالم وأنت على كرسيّ أمام مائدة.
الطبخ, يالهذا الفن المظلوم لدى الشعوب التي لا تأكل إلاّ بأفواهها, لو يتمعّن التشكيليون والمصمّمون وخبراء العطور والروائح وفقهاء الأناقة في ما صنعته أنامل هذا المايسترو الذي يمسك بكبجايته السّاحرة ويراقص الأبخرة المتصاعدة كالسلّم الموسيقي, لو يدرك المسرحيون من البريختيين كيف يلغي الطاهي الجدار الرابع ويجعلك تتفرّج عليه وهو يلاعب النيران في المقلاة أو يقدّم إليك (الفونديل) مع نارها كي تشترك معه في هذه الفرجة الآسرة.
كما لا ينبغي أن ننسى شعريّة وطرافة أسماء الأطباق التي تحمل مذاقها في ذاتها :داود باشا,شاتو بريون(الشاعر الفرنسي), يالنجي (الكاذب بالتركي), حرّاق اصبعو, الملوخيّة (ملوكيّة),بواسون دوري (السمكة الذهبيّة), بابا غنّوش وغيرها من الوصفات التي خلّدت صانعيها كما تخلّد الشاعر القصيدة… إنّه الخيال حين يعانق الإتقان والحب والإثارة.
رحل ماركو باولو وبقيت المعكرونة التي جلبها من الصين وعرف الناس البيتزا قبل البرج الذي تسمّت به وظلّت(الكسكسي) الأكلة المغاربيّة التي فتنت الشرق والغرب منذ مئات السّنين وعرف العالم ماذا نأكل قبل أن يعرف ماذا نقرأ أو نكتب, حتّى أنّي نفشت صدري يوما متباهيا أمام صديق لبناني: هل تعلم أنّ (الكسكسي) أقدم أكلة في التاريخ؟..
فأجابني بهدوء الواثق: لا حبيبي, الكبّة النيّة أقدم لأنّها وجدت قبل اكتشاف النّار..
ليحدّث عنّا الطبخ إذن,وليقل بالمعالق والطناجر ما عجزت عنه الأقلام والفنون.