المستشرقون يغربون…بعد الفرنسي أندريه ميكيل 1929 ـ 2022، يرحل المستعرب الإسباني بيدرو مزنتابيث مونييث 1933 ـ 2023، وتكون الثقافة العربية القديمة والحديثة، قد خسرت في هذين الرجلين، أهم داعميها والمعرفين بها في العالم المعاصر.
الثقافة العربية عرفت جسورا كثيرة تمتد نحو الغرب وتعرّف بها فيما اصطلح على تسميته ب “المستعربين”، وكذلك كان هؤلاء بمثابة المنقبين والمكتشفين لكنوزها الإبداعية قديمها وحديثها.
ارتبط اسم الأول ” ميكيل” بترجمة متميّزة لكتاب “ألف ليلة وليلة” والتي أنجزها مع جمال الدين بن الشيخ، إلى جانب الكثير من ترجماته ودراساته في أدب العرب وتاريخهم وجغرافيتهم،
أما الثاني “مونييث” فهو الذي ترجم محمود درويش ونزار قباني وجبران خليل جبران
كما أسس قسم الدراسات العربية والإسلامية المعاصرة في الجامعة المستقلة في مدريد وكتب الكثير من المقالات حول الثقافة العربية.
أمام هذين القامتين، لا يمكن إلا أن ننحني احتراما وتقديرا لمن أفنوا العمر في الحفاظ على موروث أدبي كادت أن تخمد جذوته وسط تحديات حضارية ومعرفية وعلمية بات الغرب الأوروبي والأميركي يتزعمها، ولم يعد للشرق سوى النكهة الفولكلورية والأسطورية.
ترى، ما الذي يجذب الغربي المتفوق إلى المنجز الشرقي الذي أصبح يسكن المتاحف، وكيف ننظر اليوم إلى الاستشراق بعد سلسلة من الاتهامات المتعلقة بعقلية التآمر، ولماذا لم ينشأ لدينا نوع من “الاستغراب” كما هو الشأن عندهم، وهل مازال الاستشراق مستمرا أم فقد بريقه ولم يعد يبهر العالم؟
جملة أسئلة، وغيرها، نطرحها اليوم، على المنشغلين والعاملين في الشأن الثقافي العربي الذي يختلف عنه دارسون بين من يرى أن الدراسات الاستشراقية قد ولت إلى غير رجعة وانتهت بانتهاء أسبابها المتمثلة في النوايا الاستعمارية بمفهومها الكولينيالي القديم، وبين من ينظر إلى العولمة باعتبارها نسقا معرفيا جديدا، وحاضنة لجميع ثقافات العالم المعاصر الذي لم تعد تعنية الاستقطابات.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة وربط الاستعراب بالنوايا الاستعمارية، علينا أن نعترف بأن أهم الدراسات التي تبحث في الثقافة العربية قديمها وحديثها، قد جاءت من أوروبيين عايشوها وجاوروها كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا وإسبانيا.
والمستعربان الشهيران أندريه ميكيل، وبيدرو مونييث، ينتميان إلى بلدين لهما باع في الاستعمار الاستيطاني، لكن البحث في الموروث العربي لا يعني بالضرورة، خبث الغايات كما يروج المشككون، وإنما ذاك الشغف المعرفي والاستكشافي الذي نتجت عنه وأنتجته مؤسسات دراسية وتعليمية متخصصة وضمن مناهج متطورة.
ولا ينبغي للمرء أن ينتقص من قيمة الأدب العربي قديمه وحديثه فلولاه لما عرف العرب أصلا، ولما ظلت اللغة العربية على قيد الحياة واندثرت كما تندثر لغات كل يوم في عصر هيمنة أصحاب التكنولوجيا الرقمية والاقتصادات القوية والفاعلة.
يجب القول أن هؤلاء المستعربين قد عرفونا بأنفسنا فلولاهم لما عرفنا الأدب الجاهلي كما في أبحاث بلاشير الذي تتلمذ عنه طه حسين، ولولا ماسينيون، لما تعرفنا إلى الحلاج وغيره من أعمدة الفكر الصوفي.
أما بالنسبة للمستعرب الراحل أندريه ميكل، فقد ارتبط اسمه بترجمة متميّزة لكتاب “ألف ليلة وليلة” والتي أنجزها مع جمال الدين بن الشيخ، إلى جانب الكثير من ترجماته ودراساته في أدب العرب وتاريخهم وجغرافيتهم.
كان شديد الصلة بكل ما هو عربي، حتى إن أقرباءه، حسب العراقي كاظم جهاد، حين كانوا يتحدثون معه عن العرب يقولون له: “عَربُكَ…”.
الشغف الشخصي هو الذي قاد ميكل، إلى هذا الاهتمام الكبير بالأدب والتراث العربيين، وليس “النوايا المشبوهة” كما تظن المخابرات المصرية التي اعتقلته أيام حكم الرئيس جمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي.
وفي هذا الصدد، قال مترجم “ألف ليلة وليلة”: كل واحد يبحث عن أن يظهر بمظهر ما، تفردٌ فيه شيءٌ من التفاخرية بالنسبة لي أنا كانت النزعة الاستشراقية هي القضية. وكي أكون دقيقا يجب القول بأنه قبل هذا التاريخ، في سنة 1946 بالثانوية حصلت على الجائزة الثانية للمباراة العامة للجغرافيا: ثمنها السفر إلى المغرب العربي، الذي ترك عندي عبر المناظر الخلابة لتونس، الجزائر، المغرب انطباعات قوية”.
أما عن المستعرب الإسباني بيدرو مونييث، فقد اهتمّ في كتاباته بدراسة التراث العربي والإسلامي الذي اعتبره أحد أبرز المكونات الرئيسة للثقافة الإسبانية ولشخصية المواطن الإسباني حتى اليوم.
عُرف عنه دفاعه عن الحقوق الفلسطينية والعربية منذ ستينيات القرن الماضي، وشغل منصب رئيس “جمعية أصدقاء الشعب الفلسطيني” في إسبانيا، كما ألّف العديد من الكتب من بينها: “شعراء المقاومة الفلسطينية” (1974)، و”القصيدة هي فلسطين.. فلسطين في الشعر العربي الراهن” (1980
ينبغي أن يدرك أصحاب نظرية المؤامرة، أن النشاط الاستخباري اليوم، لم يعد بتلك الطرق الكلاسيكية كما يتخيلونها ثم أنه أصبح متمركزا في الشأن الاقتصادي والتكنولوجي، فأين نحن من هذا وسط منافسات خارجة عن نطاق العالم العربي ولا تعنيه.
وفي المقابل، يطرح السؤال بصفة عكسية: أين إنجازات المثقفين العرب في البحث في الموروث الأدبي الأوروبي وغيره؟
كلها كتابات عابرة لا تتعدى الترجماتوبعض الدراسات المنقولة.
إنه لمن المؤسف أن يجهل المرء نفسه ويجهل الآخرين من حوله.
هل ولى زمن الطهطاوي والكواكبي في مصر وأحمد بن أبي ضياف في تونس، وغير هؤلاء من المنشغلين بنهضة الأمم الأوروبية أم أن هيمنة الثقافة السلفية وفكر الانغلاق سيطرا على الثقافة العربية ومنعا من الانفتاح والتواصل أم أن الأزمة هيكلية برمتها، ولا تنفصل عن الاقتصاد والسياسة والمجتمع.