المسرح يطفئ شموعه باكيا
من يتذكر الموظف البسيط الذي عطس في قفا مسؤول حكومي كان يجلس أمامه في المقاعد الأمامية للمسرح، وظل المسكين يعتذر منه طيلة عمره إلى أن غادر الحياة كمدا وحسرة رغم أن المسؤول نسي الأمر منذ لحظتها ولم يعد يتذكر؟ إنها قصة “موت موظف” لأنطون تشيخوف.. تخيلوها حدثت الآن وهنا في زمن الهلع من كورونا.
حتما لن تحدث، لسبب واحد، وهو أن مسؤولا وفقيرا وفايروسا لن يجتمعوا ثلاثتهم، تحت سقف مسرح أبدا، وخصوصا في البلاد العربية. هذا بالإضافة إلى أن الاعتذار لن يجدي نفعا أمام مسؤول متعجرف ولن يعيد الفايروس إلى أنف الموظف الفقير ذي الحظ العاثر.
مثل هذه القصة الاستشرافية، لا يمكن أن يُحتفى بها إلا في المسرح، ولا يمكن أن تحدث إلا في فضاء هذا الفن الذي يحتفي بنفسه هذا العام، دون أضواء وقد أغلق الأبواب على نفسه مرددا مقولة الكاتب الجزائري مالك حداد، في منفاه اللغوي والاختياري “لا تطرقوا بابي كل هذا الطرق.. إني لم أعد أسكن هنا”.
كنا في الأمس القريب، نشكو انحسار المسرح ضيق جمهوره وتراجع جودة عروضه، ولم ندرك أنه سوف يأتي يوما يسدل فيه المسرح ستائره من مسرح العرائس وخيال الظل في الصين القديمة إلى مهد عروض “كوميديا دي لارتي” في باليرمو وموطن روميو وجولييت في فيرونا الإيطالية.
“تنحسر الكورونا بالعزل و ينتشر المسرح بالجمع” عبارة تختصر كل ما يحدث الآن وهنا، كان قد كتبها المسرحي التونسي أنور الشعافي، على صفحته في الفيسبوك الذي لم يعد هذه الأيام، مجرد وسيلة للتواصل الاجتماعي وحده، بل منصة للنشاط الفني والإبداعي، ذلك أن العزلة التي فرضتها هذه الجائحة، جعلت من البيت فضاء يجمع بين الواقعي والافتراضي في عمليتي البث والتلقي.
أليس من أطرف وأغرب المفارقات أن يصبح المرء، وهو يجلس إلى شاشة التلفاز أو الكمبيوتر في إقامته الجبرية، أشبه بواحد من علية القوم، داخل مقصورته ملكية في أفخم دور الأوبرا عبر التاريخ؟.
نعم، لقد ترجل المسرح من صهوته، وصار يزور ولا يزار، وذلك من خلال فيديوهات مسجلة، كلمات وتهاني متبادلة في عيده، وكذلك أيضا، عروضا مونودرامية تبث على الأونلاين بعد أن أُسدلت الستائر، انطفأت الأضواء وسكتت الخشبات عن الكلام المباح.
انكسرت وانفرطت أضلاع المثلث الضامن لأية فرجة مسرحية، وهو النص، الممثل والجمهور. لزم كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة مخبأه، اختفى وراء كمامات وقفازات ومخاوف، فانتفى شرط الفعل المسرحي في فن قائم منذ نشأته على الاحتفالية والتشارك كثنائية تلازم الذات البشرية وتشرح علة وجودها.
ماذا يفعل الناس هذه الأيام خلف أبواب بيوتهم غير الخوف من أن يظلوا محبوسين في بيوتهم، والتوق إلى أن يتراجع “العدو الطائف في المدينة” وينسحب لصالح الحياة التي تنضح صخبا ولقاءات واحتفاليات.. ومسرحا.
ماذا نفعل بوديعة حافظنا عليها منذ قدماء بابل، آشور واليونان وروما؟ هل قدر لنا أن نشيد للمسرح أجمل الهياكل والصروح ثم ننسحب منها مذعورين ونتركها خالية على عروشها؟ ما قيمة دور العبادة دون عبادة؟
هل يكتفي المسرحيون اليوم، برثاء الكواليس المظلمة والستائر المسدلة أم هي نوع من ” الأونتراكت” أي الاستراحة بين فصلين، لنعود بعدها أكثر تماهيا مع هذا الفن الحي الذي خلق كي يموت بعد كل عرض.. ولعل دلك هو سبب خلوده.
ليكن المسرحيون العرب بألف خير، ويحافظون على نبل هذا الفن الذي استقدم “فيروسه الحميد” مارون النقاش من إيظاليا، وعانى منه مؤسسه أبو خليل القباني، في منتصف القرن 19، الأمرين من أجل أن ينتشر ويسود، إذ خرج الصبيان إلى الشوارع ليجروا وراء القباني وهم يهتفون “أبوخليل مين قالك/ على الكوميديا من دلّك/ ارجع لكارك أحسن لك/ ارجع لكارك قباني”.
حسبنا عزاء هذه الأيام أننا نحتفل بفن التعزية والتطهير الروحي، بامتياز، لكأن المسرح يعيد إحياء نفسه برثاء نفسه هذه الأيام.. أليست هذه الأقنعة والكمامات تشبه فصلا من مسرح الكابوكي؟
كثيرون هم الذين لا يودّون الاعتراف بعطشهم الدائم للدماء و حنينهم السرمدي للفواجع والفواحش والخيانات والخطايا فيهبّون فرادى وجماعات لمدارج الفرجة و جحافل المشيّعين والندّابين والمعزّين لإعلان النجاة وهم يهمسون لأنفسهم ” ها نحن نمشي في الجنازة وليس مسجّين ولا محمولين , ها نحن متفرجون وليس مقتولين ولا حتى قاتلين , ها نحن أصحّاء وليس نازفين كهذا الثور أو ذاك المقاتل الروماني على الحلبة …ها نحن نصحو صباحا ولسنا سوريين أو فلسطينيين أو عراقيين أو بشرا يحسّون أكثر ممّا يجب “…!.
الاحتفاليات التي عرفتها كل شعوب الأرض هي طقس مسرحي بامتياز , بل منها و إليها قد عاد وخرج رابع الفنون و المستحيلات الممكنة و الجميلة و القاسية …لكنها فن تشخيص كل ما أردنا نسيانه فنعيد تذكّره بقوّة ..هذا هو الإنسان المؤسس للنسيان و الممثل الشرعي الوحيد لقانون الوحدة و التناقض …وقد انطوى فيه العالم الأكبر
كثيرون هم الذين لا ينتبهون إلى ما خلف الاحتفاليات كفعل تطهيري يخفي النوايا العدوانية المبيّتة و الرغبات الدفينة في الانتقام ممن نحتفل بهم و نعلنهم ملوكا وعرّابين بتيجان من ورق و عروش كالتوابيت، وصولجانات كالمناجل والفؤوس.