فن و ثقافة

بيت السينما : جنون المدينة في أداء لوتس مسعود و يزن الخليل !

عماد نداف

خاص

(آرام) يخرج من المصح !

تلك هي الإشارة الأولى في فيلم (الخروج إلى الداخل) إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وما أن يدقق المشاهد في العنوان مع أول مشهد للفنان المتميز يزن الخليل (شخصية آرام)، وهو يغادر مسشفى الأمراض النفسية، حتى يهاجمك سؤال عن المعنى ، فهل خرج (المجنون) من المصح، ليدخل في المصح الكبير الذي هو المدينة؟!

تلك هي ثيمة الفيلم السينمائي الذي قدمته المخرجة وكاتبة السيناريو لوتس مسعود ، وهي ثيمة طرحها من قبل توفيق الحكيم قبل نحو قرن من الزمن في مسرحية تحت عنوان (نهر الجنون)، فأين تقاطعت فكرة الخروج إلى الداخل مع فكرة النهر ؟

تقاطعت الفكرة في بعدها الرمزي، فإذا كان الملك في مسرحية الحكيم قد وجد نفسه في النهاية أمام منطق يقول ( إن المجانين الكثرة هم العقلاء) ، فاضطر إلى الشرب من ماء النهر ليدخل في الجنون الجمعي ، فإن لوتس مسعود قادت العملية من دون حاجة إلى حتوتة قديمة من أيام زمان، بل من خلال سردية القصة السينمائية الحديثة الشيقة التي صاغتها بعناية كاتبة واقعية تطمح لواقعية سحرية تميزها عن الآخرين، فالجنون هنا (رمزي) ، كما هو عند الحكيم، لكنه عصري بدلالاته وعناصره ومعطياته التي لم نلحظها هناك.

فالمكان (المدينة) واضح، مفتاحه الصور التي تزين المدينة والمبشرة بمستقبل زاهر من قبل ممثل الشعب (النائب)، لكن (الجولة السينمائية) في رحلة (آرام) لاتوحي بشعارات النائب في خلفية موقف الباص الذي جلس فيه آرام، ولا في الإعلانات الموزعة في الشوارع .

نتعرف على ذلك في المواجه المدهشة التي تلاحق (آرام) في طريق عودته إلى بيته منذ لحظة ركوب التكسي، وصولا إلى قرار الانتحار ، واكتشاف (الجنون الجمعي) .

فآرام يحمل حقيبة أمتعته الحمراء، وهو انتقاء مهم ، لأنه يحمل معنى التحذير والخطر، وفي طريق العودة إلى البيت يتعرض لسرقة الحقيبة ، فإذا نحن أمام مطاردة للسارق الذي تصدمه سيارة فيترك الحقيبة ويهرب، أي أن السيناريو وضعنا في حالة تشويق مبررة وغير مفتعلة، لاتلبث أن تتوالد فتقدم حالات كشف أخرى تحمل إثارة وتشويق متتابع (عامل التنظيفات  الجائع، الشاعر المجنون، المشاجرة ونتائجها، وصول آرام إلى البيت وضرب صديقه). وفي كل ذلك إشارات لحال المدينة وبؤسها وجنونها..

في النهاية يقرر آرام الانتحار من فوق جسر الرئيس، فإذا به يشاهد تحت الجسر كل الناس تحمل الحقائب الحمراء، أي أن (لست وحدك يا آرام) وهنا نستعيد (نهر الجنون عند الحكيم)، لأن آرام يصاب بالدهشة نفسها التي أصابت الملك ، ويختتم الفيلم بالعودة إلى  المصح وعلى باب كل غرفة من غرفه حقيبة حمراء، وراقصة ترتدي الثوب الأحمر تتمايل في صدر الممر،  وكأن المصح اتسع بحجم المدينة !

ينبغي أن نعترف أولا أن لوتس مسعود نجحت في السيناريو والإخراج معا، وأهم ما أسس لنجاحها هو انتقاء (كاست العمل) بمهاراته الواضحة وفهمه للرسالة التي تريدها من السيناريو، وهذا ماقادها إلى النجاح !

أوجدت لوتس مرتكزات لها لتصل إلى النتيجة بطريقة آسرة، فالأدوار القليلة التي يحتاجها السيناريو، تتطلب تلقائيا مهارات عالية في انتقاء الممثل، لأن الرسائل التي يقدمها الممثلون، حتى بمقياس الحركة، لها كبير الأثر في فهم الفيلم، وقد حمل الفكرة الفنان الساحر يزن الخليل، فأعطى بأدائه كل الرسائل التي تحملها فكرة السيناريو أداها ككمثل وإنسان معا.

كانت عملية انتقاء الممثل لافتة في تجربة لوتس مسعود، رغم خبرتها القليلة، لأنه لو قام آرام بتقديم نفسه كمجنون فعلي لتغيرت رسالة النص/ الفيلم كله، باعتبار أن المصح هنا، هو حامل رمزي لفكرة أكبر من حالة جنون أو عُصاب أو ذهان أو اكتئاب تصيب إنسان ما، هو نموذج مصغر عن المدينة.

وفي الدور القصير للفنان تيسير إدريس ، في ظهوره الرائع ، استعادة موفقة للشاعر الراحل محمد الماغوط في نص كان من المفاتيح الناجحة للتعريف بحال الإنسان في هذه المدينة، وحتى في  الشخصيات الأخرى التي مرت سريعا (الحرامي، سائق السيارة ، أهل البيت، الزبال، المشاجرة ..) هناك أداء مدروس لشخصيات لم تكن مجرد مانيكانات حتى وإن لم تحك..

نحن أمام معطيات لنوع من الجنون موجودة في كل مكان في مدينة هي  (دمشق) ، وهي جرأة أخرى من لوتس، لم توارب في كشفها في المشهد البصري، لأنها مضطرة إلى التلاعب بين الواقعي والعبثي في معادلة صناعة (السحري) وفي مدينة تخرج من الحرب إلى الحرب، ومن الغرائب المضمرة إلى الغرائب المكشوفة.

هناك جنون مطبق على المدينة لابد أن يمر به (المجنون) بلغة مصح الفيلم ، والعاقل بلغة  الحكيم ، وتبدو حيات تلك الشخصيات دوائر متلاحقة من العبث والفوضى والاختلال النفسي والعاطفي والجوع والقمع، والتي تحاصر كل الناس في زمن غريب ومدينة يحبونها و تكسرت فيها القواعد وتغيرت فيها المفاهيم.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى