أعراض (الرشح الطائفي)
أعراض (الرشح الطائفي) ..أوّل أعراض مرض الطائفيّة – عافانا منها ومنكم الله – تبدأ بحالة رشح أو نزلة برد بسيطة كأن يعمد الواحد إلى إقامة مسافة لفظيّة حميدة في ظاهرها، خبيثة في باطنها بينه وبين الطائفة التي لا ينتمي إليها، ألا وهي عبارة (إخوة) التي يتصدّر بها جملته في قوله : (إخوتنا : المسلمون، أو المسيحيون … أو حتى الموسويون (بدل اليهود) لدى أهل المدن الكبرى …. وذلك مراعاة للشعور القومي العام وعلى اعتبار أنّ اليهود لا يسكنون القرى أو التجمّعات الريفيّة.
تزداد الحالة في الاستفحال التدريجي عبر التخصيص ضمن الديانة الواحدة، كقوله: إخواننا السنّة، أو الشيعة، الدروز، العلويون، اليزيديون، البهائيون، الصابئة .. الأرتوذكس، الكاتوليك، البروتستانت، الأشكيناز، يهود السامرة …. الخ…
يتطوّر الأمر فتذهب بعيداً نحو نوع من (الفوكسة)، أي التكبير كفرز انشطاريّ دقيق ومناطقيّ في حالات كثيرة، كقولهم : سنّي مالكي، حنفي، حنبلي، شافعي، أو شيعي جعفري، زيدي (مرجعيته قم أم النجف) ، اسماعيلي، حوثي، أم علوي، مرشدي (من الحدّادين أم الخيّاطين)، من الاقطاعيين أم الفقراء …………
يتجاوز المرض هذه الحساسيّة البسيطة ليصل إلى مرحلة الداء العضال حين ترتدي الطائفيّة عباءات سياسيّة وتتنكّر في هيئات مدنيّة وجمعياتيّة وتبدأ بإلباس النعوت والتوصيفات الأخلاقية التي تصل إلى حدّ التخوينات الوطنيّة لكلّ فئة لا ننتمي إليها بالوراثة… عندئذ يبدأ ظهور الغيتوهات والكانتونات، فيعلن كوباء وتسنّ الأسلحة بعد سنّ الألسن … كلّ ذالك من أجل (رفع كلمة الحق وهزيمة الباطل وإعلاء راية الله)…!!.
الذي يعطي للطائفية زخمها هو الكفر بالانتماء إلى المجموعة الوطنية ومبدأ العيش المشترك لأسباب عديدة ومعقّدة، أهمّها أنّ هذا (الوطن) مشكوك في استقلاله وظروف نشأته أصلاً، ثمّ أنّ النخب السياسية التي تدير وتحكم هذا (الوطن ) ليست بمنأى عن المرض الطائفي … إنها أشبه بأطبّاء مرضى، يعانون نفس الوباء ويستنشقون نفس الفيروس الذي جاؤوا لمعالجته في مشفى غير قابل للشفاء.
اجتاحت الأوبئة الطائفية والصراعات الدينيّة المجتمعات الأوروبية منذ زمن بعيد وكلّفتها الدمار والمآسي، لعلّ أكثرها بشاعة وفظاعة هي تلك الحرب التي قامت بين الكاتوليك والبروتستانت أيام الملكة (مارغو) حين احمرّت الأزقّة والشوارع وامتلأت الأنهار بالجثث …. فكيف توقّفت الآن وكأنها لم تكن ؟!… وصارت مجرّد درس في كتاب التاريخ الذي يتعلّم منه التلميذ الكاتوليكي مع قرينه البروتستانتي في نفس الصفّ وعلى نفس المقعد وهما ينظران إلى لوح الأستاذ والأيام المقبلة بثقة وأمل وإشراق.
لا يمكن الفصل بين الطاعون الذي تنقله الفئران في البلاليع والأقبية إلى الأجسام البشريّة وبين طاعون الاقتتال الديني، فأرقام الضحايا متقاربة، بل هي نفسها … وكذلك طرق التصدّي و الوقاية والمعالجة .
الإبرة التي لقّحت الأوروبيين ضدّ الطاعون والحمّى والشلل والجرب هي نفسها التي لقّحتهم من الحروب المذهبيّة والصراعات الدينيّة والعرقيّة التي لا تفضي إلاّ إلى الخراب وبئس المصير.
هذا المصل أو الإبرة السحريّة اسمها المعرفة والعلم وحب الله في جميع عباده والإيمان بالمقولة الشهيرة: ( إمّا أن نعيش مع بعض كالإخوة والأشقّاء وإمّا أن نموت مع بعض كالحمقى والأغبياء).
تلك الفئران والجرذان التي تنقل الأوبئة والأمراض هي الآن كائنات بشريّة تعيش وتتناسل بيننا وتنقل سمومها في بيئة حاضنة ومثاليّة , يغذّيها الجهل والفقر والتخلّف، ويرعاها حكّام باعوا أنفسهم للشيطان .
نزلة البرد الطائفية بدأت تسري في مجتمعاتنا وتستفحل لأنّ النخب السياسية والثقافية في عالمنا العربي قد أصيبت بالرشح الطائفي، فلماذا نلوم البسطاء حينما يعطسون.
*كلمة في الزحام:
إذا كانت عبارة (اخوتنا) كمّامة تتوهّم أنها تحميك من الرشح الطائفي، فاخلعها وقبّل كلّ الناس دون خوف … لعلّ ذلك يكسبك مناعة فائقة لك وللآخرين.