ثقافة “حلال ع الشاطر “…
ثقافة “حلال ع الشاطر “… ماذا تنتظر من ثقافة انتهازيّة تسود وتتمدّد في بلادنا العربية كبقعة زيت من الماء إلى الماء، وتشبّه كلّ عمليّة نهب وهبش للأموال العامّة بمجرّد قلع شعرة من مؤخرة خنزير .!..بل، تزيد عليها وتزكّيها بجملة من الأمثال المسمومة كـ “حلال ع الشاطر ” و ” الماء الذاهب إلى الخروع، الزيتونة أولى به ” و ” المال الداشر يعلّم السرقة “…وهلمّ جرّاً من تلك ” الدساتير الشفهيّة ” التي تشرعن السرقة وتشيطن الدولة ….الدولة التي كانت ولا تزال في أذهانهم وحشاً يتربّص بهم و وجب الإطاحة به ـ شرعاً ـ قبل أن يصرعهم .
تحيلنا هذه العقليّة الهدّامة إلى أمر غاية في الخطورة وهو أنّ مفهوم الدولة بمنطقها المؤسساتي غائب أو يكاد، إذ يعتبرها الجميع مجرّد خزائن من المال مجهول المصدر، في حوزة جماعة معينة، وعلى كل واحد أن يغنم منها بمقدار قوته و ” ذكائه” واقترابه من مواقع القرار، بل ويسخرون عادة من نمط ” الموظّف النزيه” و” المواطن الصالح ” ويعتبرونه مغفّلاً، ضعيفاً وعديم الحيلة، مبرّرين ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة في قصيدة “هند”، ” إنّما العاجز من لا يستبد ” .
قد يتجاهل البعض ـ أو يجهل ـ أنّ الأموال التي تتهافت عليها الأيدي هي ملك للمجموعة الوطنيّة تأتّت من الضرائب والمداخيل والخدمات وحتى القروض والهبات التي تشرف عليها الدولة كشخصيّة اعتباريّة تمثّله مع بقيّة الذين يحملون معه صفة ” المواطن ” ويقتسمون معه هذه الرقعة من الأرض في يسرها وعسرها ضمن ثنائية الحق والواجب .
أهمس لنفسي الآن ” كفاك تنظيراً ساذجاً “، فقد يعلم ـ أو يتعلّم ـ أي فرد هذه البديهيات والأبجديات الأولى في مفهوم الدولة والمواطنة دون أن يضطرّ لقراءة العقد الاجتماعي لـ”جان جاك روسو ” أو يبحر في كتابات “منتسكيو ” و “آدام سميت ” و”أبن خلدون ” …أو حتى ينصت إلى أستاذ التربية الوطنية في المدرسة … إلاّ أنّ النهب يستمرّ ويستمرّ بوتيرة جهنّمية، بل ويكون أكثر شراسة من تلك الشرائح المتعلّمة والمنظّرة والمتنفّذة و” المتدبّرة ” و المسؤولة على تسيير “دواليب ” الدولة .
إذن، يبدو واضحاً أنّ الخلل ليس معرفيّاً وأسبابه تعود إلى غياب الوعي بمفهوم المواطنة والمصلحة العامة، بل في فقدان الثقة بين المسؤول والمواطن الذي بات يعمل بمقولة “ّ إذا كان كبيرهم بالطبل ضارباً ..” …والأدراج لا تشطف إلاّ من الأعلى كما يعلم الجميع .
تبقى الأزمة في اعتقادي أخلاقية تربويّة بامتياز قبل أن نخصّص لها البرامج التحسيسيّة والمحاضرات التوعويّة، إنها تبدأ من احترام ” الموظّف النزيه ” و” المواطن الغيور ” الذي بات في زماننا مصدر سخرية، مادة للتفكّه و ” كاركتر ” ممسوخ في بعض الأعمال الكوميديّة التي تزيد موائد رمضان تخمة وجشعاً وأكلاً للحوم البشر وهم يتفرّجون.
لا خير في أمّة تسخر من الفقير والصادق والغيور على أرضه وعرضه، ولا مستقبل لثقافة تمارس عقد نقصها في تبجيل الوافدين من الضاحكين على ذقوننا وعقولنا .
كلمة في الزحام …
أكتب هذه السطور على وقع خبر فضيحة وزير ثقافة سابق في ” تونس الجديدة ” كان قد أبرم عقد سمسرة بمئات الآلاف من الدولارات مع مغنية أجنبية تافهة على حساب فقراء شعبه ومبدعيه الحقيقيين الذين ترميهم وزارته بالفتات …وقس على ذلك في وطن تمتدّ فيه بقعة النهب من الماء إلى الماء .