كتب

خيري بشارة يروي فصولاً من سيرته الذاتية

رشا أحمد

الحكي الحميم والصراحة اللافتة التي لا تستهدف تجميل الأشياء، بل ترغب في نقل الوقائع التاريخية كما حدثت، هما أبرز ما يميز السيرة الذاتية للمخرج السينمائي المصري خيري بشارة، التي صدرت عن «دار الشروق» بالقاهرة تحت عنوان «هى دي الحياة كما حكى خيري بشارة لشيماء سليم».

الكتاب نتاج 20 ساعة من الأحاديث الصحافية المتقطعة على مدار أربع سنوات أجرتها معه المحررة الفنية شيماء سليم، لتكون النتيجة مذكرات تتسم بالعفوية والتدفق لدى مخرج يبلغ من العمر حالياً 78 عاماً ويمتلك تجربة شديدة الثراء، سواء على المستوى الإنساني أو في أفلامه العديدة التي من أبرزها «الطوق والإسورة»، 1986، و«كابوريا» 1990، و«آيس كريم في جليم»، 1992، و«قشر البندق»، 1995، فضلاً عن مسلسل «ذات» 2013.

في بداية الكتاب، يشير خيري بشارة إلى أنه من مواليد 30 يونيو (حزيران) 1947، عاش السنوات الست الأولى من عمره بإحدى قرى محافظة كفر الشيخ قبل انتقال العائلة لاحقاً إلى حي شبرا بالقاهرة، خلت طفولته من المشاكل وبها الكثير من اليسر، فوالده كان يعمل في «التفتيش الإنجليزي». «عشنا في الجانب النظيف المنظم الساحر من القرية في منزل على الطراز البريطاني يشبه منازل إنجلترا المدببة. لدى الأسرة سيارة جيب ودراجة بخارية تشبه دراجات (كونستبل البوليس)، الوالد ميسور مادياً حيث يتقاضى راتباً جيداً ولديه أرض زراعية، وجده لأبيه بالضفة الثانية من القرية كان تقريباً أغنى شخص هناك، يمتلك أراضي وبيوتاً ومحلات». كان طفلاً جميل الملامح ونساء العائلة كثيراً ما تنازعن بسببه. شكلت الطفولة بداخل خيري بشارة بذرة انحيازاته الفكرية رغم اعتقاد الناس أن الانحياز يأتي مع الكبر والقراءة والثقافة «حين يصبح الإنسان مسيساً ويختار أن يكون يسارياً اشتراكياً أم يمنياً». أما هو فنتجت انحيازاته عن حادث وقع في طفولته عندما قامت ثورة 1952 وكان عمره خمس سنوات، فشجعت الثورة الوليدة أحد الفلاحين على التجرؤ على والده والرد عليه فضرب أبوه الفلاح وأدماه. عندها كره والده وتعاطف مع الفلاح وكان سعيداً من منطلق الشر الطفولي بخوف أبيه من الثوار الجدد أن يعاقبوه جراء فعلته، على حد تعبيره. أصبح ثورياً حالماً بشكل رومانسي، طوال حياته فيما بعد.

مفارقات سينمائية

المفارقة أنه في بدايات عقد الستينيات، وبعد أن خاض بشارة اختبارات القبول في معهد السينما، كان متيقناً أنه أكثر من غيره ثقافة وإلماماً بالسينما وعوالمها نتيجة قراءاته ومشاهداته المبكرة، لكنه رسب في الاختبار ولم يتم قبوله، ما تتسبب في إحباط شديد له. ولكن حدثت مصادفة ثانية سعيدة حيث صدر قرار على مستوى الجمهورية بقبول الكليات والمعاهد لدفعات ثانية في هذا العام 1963، فالتحق بالمعهد بالدفعة الخامسة لتأسيسه. بدأت الدراسة عام 1963 وتخرج عام 1967.

لم يكن تخلص بعد من حلم أن يكون ممثلاً، لذا أثناء دراسته في المعهد قام بالتمثيل ما بين كومبارس وممثل ناطق لجمل قليلة في عدة مسرحيات منها «وابور الطحين» للشاعر نجيب سرور وكان يشاركه في تمثيلها نور الشريف عندما كان لا يزال يستخدم اسمه الحقيقي «محمد جابر». كانا يعرضان العمل على خشبة «مسرح الحكيم» ويومياً بعد انتهاء العرض كانا يتجولان بلا هدف في الشوارع يحلمان سوياً. كان مبهوراً جداً بنجيب سرور وهو أحد المؤثرات الخفية غير الواعية والمبكرة جداً في حياته، وكمراهق يبلغ من العمر 16 أو 17 سنة، كان يسعد جداً بمشاهدة ماجدة الخطيب وهي تمثل أمامه، التي تشاء الأقدار فيما بعد أن تكون بطلة ثاني أفلامه وهو «العوامة رقم 70»، «وهذا يحدث دائماً له مع الناس والأماكن، دائماً هناك لقاء ثان».

بين شاهين وصلاح أبو سيف

يطرح خيري بشارة مقارنة دالة ولافتة بين اثنين من رواد الإخراج السينمائي في مصر، يوسف شاهين وصلاح أبو سيف، موضحاً أنَّ من أكثر الأساتذة الذين درّسوا في المعهد وأحبهم يوسف شاهين الذي كان في التاسعة والثلاثين من عمره، وكان أول مخرج لفت نظره وجعله يبحث عن اسمه على «أفيشات» الأفلام. وكان شاهين يدرّس كتاب «مبادئ الإخراج المسرحي»، تأليف ألكسندر دان. ويعتبر بشارة أن أساتذة قليلين لديهم سمعة في التدريس وفي الوقت ذاته مبدعون كفنانين، ومن هؤلاء يوسف شاهين ومحمود مرسي في معهد الفنون المسرحية، وأيضاً سمير سيف.

كان الطلبة يشعرون أن شاهين يقول كل ما يعرفه، لا يبخل بشىء ويسعى لتطوير معارفهم إلى أقصى درجة، لا يتوانى عن البوح بكل ما يلم به ربما لأنه تعلم في أميركا أو ربما تكون هذه طبيعة شخصيته كأستاذ. لم تكن توجد عنده «مظهرية العلاقة» أو «طقسية الأستاذ»، فمنذ البداية جعلهم ينادونه بـ«جو» أو «يوسف». كان بسيطاً يعلم بطريقة ديمقراطية ويكسر الحاجز بينهم وبينه كأستاذ، ولديه كاريزما وإذا غضب من أحدهم مرة لا يعني أن يعطيه درجة سيئة.

على العكس، كان صلاح أبو سيف، الذي درّسهم في الصف الرابع، وكان «يحصرهم» بلا مناسبة في عالمه وأفلامه، فمثلاً جعلهم يختارون مشاهد من «القاهرة 30» ليعيدوا إخراجها. وطبعاً لا توجد لديهم خبرة وكانوا يقدمون له تجارب بدائية، لكنه لم يعلق عليها أو يطورها أبداً، لا تعليقات قاسية ولا إطراء… فقط يسمع ويهز رأسه. أبداً لم يقل لهم جملة مفيدة كأستاذ. كان دائم الصمت.

من بولندا إلى الاحتراف

يتطرق خيري بشارة إلى دراسة السينما في بولندا، التي مهدت طريقه لاحتراف الإخراج السينمائي فيما بعد، بادئاً بالأفلام التسجيلية ثم المسرح قبل أن يستقر في الأفلام الروائية.

يقول بشارة: «حين أتأمل تجربة بولندا بذهن صاف يمكنني القول إنني خرجت من قوقعتي، فكرياً وإنسانياً هناك، فقد كنت في مصر ممن يطلقون عليه (الطالب النجيب)، ترتيبي الأول، مدمن قراءة ومشاهدة أفلام، مجتهد جداً. لم أعش حياة مثل أي شاب في عمري وبالتالي عندما ذهبت ومهم جداً هنا أن نعود إلى ملحمة جلجامش وحكمة (عرف المرأة… عرف الحياة)، فعندما عرفت المرأة ووقعت في الحب عرفت الحياة لأنني خرجت من عالمي الضيق إلى عالم أكثر رحابة وتحضرت وصرت رجلاً».

ويكشف خيري بشارة عن فلسفته في صناعة سينما تسجيلية قائلاً: «عندما بدأت أصنع أفلامي التسجيلية لم أكن معنياً بالإنجازات الكبرى، لا بالسد العالي ولا مصنع الألمونيوم. كنت مهتماً بالأشياء البسيطة التي تصنع الوطن». من هنا جاء أول أفلامه (صائد الدبابات) عن جندي دمر 23 دبابة، يقول: «نعم هو بطل والنظام كان يروج له لكن من يشاهد الفيلم سيفهم موقفي. لم تكن تهمني الدبابات المدمرة، كان يهمني البطل نفسه كإنسان هو ورفاقه، هو لم يصنع النصر وحده. لقد سحبت منه مفهوم (البطل السوبرمان) وأوضحت أن حوله أبطالاً آخرين وذهبت إلى قريته التي تئن من المشاكل».

وحول فلسفته في صناعة الأفلام الروائية الطويلة التي تجلت من خلال فيلم «العوامة رقم 70»، إصدار 1982 بطولة أحمد زكي وتيسير فهمي وماجدة الخطيب وكمال الشناوي، يقول: «أنا غير مهتم بتصنيف الفيلم وإذا ما كان أول عمل في الواقعية الجديدة أم لا، لكن يجب أن أقول رغم أنه أول عمل مصري تكون به حركة الممثلين طبيعية خارجة من الواقع، ليست مصنوعة للتمثيل ولا للحوار. كنت متأثراً في هذا الفيلم بشدة بالأدب الروسي وتحديداً أنطون تشيخوف، أردت أن (أنحت) الكاتب الفذ المدهش في كل شيء، يعني لو كان تشيخوف مخرجاً، كيف كان سيوجه الممثلين ويشكل حركتهم، أظن أن هذا ما ميز (العوامة 70) في زمنه».

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى