سفينة يقودها كل البحّارة
سفينة يقودها كل البحّارة .. تقول طرفة فرنسيّة :(إذا رأيت شقّة مضاءة في الهزيع الأخير من الليل, فتأكّد أنّ الاحتمالات ثلاث : إمّا عاشقان فرنسيان يمارسان الحب, أو افريقيان يقترفان الحشيش, أو عربيان يتحدّثان بالسياسة .
الاحتمالات الأخرى كثيرة, لكنها قليلة….النكتة تبدو عنصريّة, ويحاسب عليها القانون في بلادهم, لكنها تشي بحقيقة جليّة, وهي أنّنا – نحن معشر العرب – مهووسون بالسياسة لدرجة أنّنا نضيّع ليل باريس الساخن ومغرياته الكثيرة ونلتفت للسياسة التي أدار إليها الأوروبيون بظهورهم وتركوها لمحترفيها.
هم يعطون للخبّاز خبزه وإن أحرق نصفه, يصوّتون له مرّة كلّ بضع سنوات ويتخلّون عنه, إن أخلّ بوعوده ثمّ يمضون إلى عملهم والاعتناء بشؤون أسرهم وأطفالهم, تعنيهم البيئة والضرائب وأسعار الوقود وكلفة الاتصالات, قبل الايديولوجيات والهويات والصراعات, تهمّهم ذائقة المترشّحين في الملبس والمأكل والمشرب …وتعنينا سطوة المال والعشائر وألوان المعتقدات.
يضخّون أموالا ونضخّ أموالا لتمويل الحملات الانتخابية, لكنهم يخاطبون الرؤوس ونحن نخاطب النفوس, يتوجّهون إلى الأفكار ونحن نتوجّه إلى البطون.
ليس الأمر جلدا للذات ولا مغازلة مجّانيّة لمن ذقنا منهم الويلات وجثموا على صدورنا طويلا في استعمار جائر …. لكنه مصارحة أمام النفس والتاريخ وما سوف يأتي.
من يتحمّل المسؤولية يا ترى, من جعلنا محلّ سخرية بين أمم كانت في تاريخها تأكل لحوم البشر … في الوقت الذي كنّا فيه ندهشهم بكل كتاب أو اختراع أو اكتشاف.
هل يتعلّق الأمر بمفهومنا للسياسة التي يظنها الكثير منّا امتيازا وريادة وحظوة بالمفهوم القبلي … بينما يعتبرها الآخر مسؤولية ومبادرة نبيلة لحلّ مشاكل المجموعة والنهوض بأوضاعها.
أعتقد أنّ الاختلاف معرفيّ وهيكليّ بين ثقافتين تفصل بينهما سنوات مظلمة, نتحمّل نحن مسؤوليتها … كما أنّنا معنيون بالإجابة على أسئلة شائكة .
يجب أن نعترف بأنّ أزمة العقل العربي لا تكمن في انتاجه لثقافة متخلّفة, بل في آليّة عمله وكيفيّة استيعابه للأزمات والتعامل معها, كيف تريد لآلة في مصنع مثلا أن تنتج لك صنفا من الحلوى وأنت تشحنها بشيئ آخر .. ولا تغيّر من مجرى دواليبها ومسنّناتها .!؟
أغلبيّة المصانع السياسية في بلادنا العربية مصابة بالوهن أو الخلل أو الخرف … أو تجاهل منتجاتها ومنتجيها ونتائجها.
لماذا يتحدّث مواطننا العربي في السياسة ويقضي يومه في التفرّج على نشرات الأخبار, في حين يلتفت الغربي إلى شؤون أسرته …؟, هل نحن أفهم من غيرنا في تحليل الوقائع واستنباط النتائج…. أم أنّ في الأمر خلل يجعل كل الطبّاخين (غير المهرة) يتهافتون على طناجرنا, فيضع كل واحد البهارات التي تروق له في صحننا, ويدّعي احترافه لمطبخ ليس من اختصاصه.
نحن نتحدّث كثيرا في السياسة لأنّ بنا نزوعا نحو الهيمنة مثل من يتفرّج على مباريات في الفوتبول ويشتم اللّاعبين والحكّام ومناصري خصمه … وكأنّ الحقيقة الوحيدة هي تلك التي يملكها عبر صراخه وحماسه.
نتحدّث كثيرا في السياسة لأنّنا لا نتقنها, مثل من يزدري السينما دون أن يشاهد في حياته فيلما واحدا … تكثر نكاتنا الشعبيّة في الثالوث التقليدي المحرّم (الدين, السياسة ,الجنس) ذلك لأنّ علاقتنا مع هذا المثلّث لم تزل ملتبسة, فلا ثقافة ولا تربية تعلّمك احترام الآخر في معتقده و رأيه وشؤونه الخاصة.
نتحدّث كثيرا في السياسة لأنّ لا ثقة لدينا في ساستنا … مثل من يريد اللعب بدل لاعبه المفضّل … إنها أزمة ثقة بين الطرفين.
إنها أزمة ثقة مع النفس ومع من ولّيناهم أمرنا, وليس أبشع من سفينة يريد أن يقودها كل البحّارة.
*كلمة في الزحمة : كنت شابا أقرأ كتابا ل (لينين) حين قال لي سائح أجنبي: من لم يكن ثوريّا في سن العشرين فهو بلا قلب… ومن ظلّ كذلك بعد الأربعين فهو بلا عقل…. تعال واسبح معي …والق بهذا الكتاب من يدك.