سوريالية تونسية
سوريالية تونسية .. جميع الأهل والأحبة والأصدقاء، وكذلك” العرب ” جمعاء، بكل موظفيها ومحرريها، سألت لتطمئن عني وأنا في الغرفة 213 من قسم التوليد في تلك المصحة التي تجاور وتناظر في ضخامة بنائها مقر إحدى أكبر الأحزاب الإسلامية في تونس.
لم يجد لي القيمون على المصحة غرفة شاغرة ـ وتليق بأوجاعي ـ غير تلك التي تتوسط قسم التوليد وتقابل المصعد. وهكذا أصبح سريري وجهة كل قادم يأتي مهنئا أو مطمئنا على سلامة المولود، وإذ به يفاجئ ب”كائن” شاحب الوجه، رمادي الشعر، كثيف الذقن، سميك النظارات ويتسلى بقراءة ما تيسر من كتاب الأبراج حينا، والإطلالة من الشباك لمراقبة السيارات الفخمة المصفوفة عند مقر الحزب الإسلامي المجاور، حينا آخر.
أحد المتلهفين من الزوار رمى بباقة الورد في وجهي المغطى بكتاب، وانهال علي تقبيلا ظنا منه أني زوجته، كما أصرت إحدى الممرضات في آخر الليل أن تحقنني بإبرة محرضة للمخاض دون أن تدقق في ّجنسي”، وذلك لمجرد أنهم قالوا لها ” هذه للرقم 213″.. يا لحظي العاثر مع هذا الرقم الذي عادة ما يتم استبعاده من أبواب غرف الفنادق والمكاتب وحتى السجون.
أمّا الأطرف من ذلك كله، فهو ما جرى للصديق الدكتور هيثم (وهو المعروف بشدة الدقة وقوة التمحيص)، إذ لم تكد قدماه تطأ الطابق الثاني وهو يدقق مستغربا ومشككا في اللوحة التي كتب عليها ” قسم التوليد“، حتى أشارت له الممرضة بأنه ليس مخطئا ثم انهالت الزغاريد على حين غرّة في طقس احتفالي لا تنقصه إلا الموسيقى النحاسية. قد يبدو الأمر بالنسبة لواحد غيره مقلبا من مقالب الكاميرا الخفية، لكنه الدكتور صار خبيراـ على ما يبدو ـ في “السوريالية التونسية” ابتداء من الفنادق والمطارات، وفي كل مرة يأتي فيها من لندن.. الحق عليه.. كان عليه أن يأتي من بلد ذي مزاج مشابه أو قريب.
كانت أياما عسيرة عشتها بين الزغاريد والأهازيج والتهاني، وفرح القابلات والممرضات بالإكراميات بعد أصوات عسر الولادة، لكنها أيام تمخضت عن أمل يولد فوق الأسرّة البيضاء وينزل المصعد في اتجاه بيته مثل مولود باسم جديد، وإن كان يحمل كيسا من الأدوية ويتوكأ على عكاز ليس له فيه أي مآرب أخرى غير تبصّر حفر الطريق، والهش به على تلك “الدواب المعدنية” الفاخرة، والتي يقودها قياديون في المبنى المجاور للمصحة.
شكرا للصداقة عزاء أبديا ووحيدا للحياة.. شكرا للحنو الأخوي الكبير الذي جلس إلى سريري في الغرفة 213فتحولت إلى واحة من تفاؤل بفضل رجل لا ينتظر منك شيئا سوى أن تكون بخير.