فضل الرعاة على الحضارة
لو فكرت البشريّة في قيمة ما قدّم لها الرعاة عبر تاريخها لأقامت لهم النصب والتماثيل –مع قطعانهم- في مداخل المدن قبل البوادي … اعترافا وإجلالا بإسهامات هذه الفئة من صنّاع الحضارة.
قد يعتقد البعض أن الحضارة لا تقوم على ظهور الدواب وأن الحجر المتدحرج لا ينبت عليه العشب , فالإنسان لا يفكر في الزراعة والصناعة والعمران إلاّ عندما يستقرّ ,ولكن ,من قال إنّ الحضارة هي -فقط – مظاهرها ومفرداتها؟.
حسب الراعي فخرا أنه أول من فهم ورصد وتكيّف مع لغة الحيوان والطبيعة فتعلّم منها الكثير… ودجّن الرياح في نايه ليحاكي غربة القصب ويؤسّس لمفهوم الشعر كلحظة اندهاش أبدية أمام معجزة الحياة.
يدرك الراعي بالسليقة أنّ الدواب والغيوم والسواقي لا تحتاج إلى إشارات مرور ولا يلزمها نقود أو نميمة أو أوراق ثبوتيّة ,كما لا يعنيه الوقوف أمام الواجهات التجارية و في طوابير طالبي التأشيرات.
تفاصيل كثيرة من مظاهر الحياة المدينيّة وترفها, مدينة في وجودها إلى الرعاة …وإليكم بعض النماذج:
بنطال الجينز: اللباس المفضّل لدى رعاة البقر لمتانته ومناسبته لصهوات الخيول المطاردة للأبقار أو الجامحة والعصية على الترويض ,جاء السيد (لفيس ستراوس) وهو أمريكي من أصل ايرلندي وأدرك بحسه التجاري الماكر أن هذا القماش الأزرق العجيب سوف يكون له شأن عظيم فأقدم على إنشاء أوّل معمل لتصنيعه وتعميمه ليناسب جميع الفئات والأذواق والأزمنة ..وبات الدجينز رمزا لكسر رتابة الأناقة الأرستقراطية وعنوانا للانفتاح الطبقي.
– (الروك فور): هذه الجبنة الفرنسية ذات الطعم الآسر ,يعود اكتشافها وبالصدفة إلى راعي أغنام في مقاطعة من الريف الفرنسي تحمل الاسم ذاته,أخفى صاحبنا زوّادته من الجبن العادي في مغارة ذات رطوبة خاصة وحينما عاد إليها بعد أيام وجد أن قطع الجبنة قد تعفّنت ولكنه كان مضطرا لأكلها بدافع الجوع.. (أمهر الطباخين) ..ومن يومها أدمن الراعي إيداع أجبانه تلك المغارة الساحرة وأدمن الفرنسيون هذا المذاق العجيب ,جعلوه على رأس ثقافتهم (الجبنية) تباهوا به وصدروه إلى مختلف أصقاع الأرض.
-الغولف: رياضة أصحاب الصولجانات ,يعود اكتشافها الى راع من ريف (ادمبره) السكوتلندية يلهو بعصاه بين التلال ويقذف بطرفها الأحجار كي يفزع الأرانب في مضاجعها ,أحب بقية زملائه من الرعاة هذا اللون من التسلية وعمموها على أهالي القرية إلى أن تفطّن إليها بعض الأثرياء من المتقاعدين فاحتكروها وجعلوها رياضتهم المفضلة .
كما أن أغلب الرياضات الأخرى من العاب القوى كالركض والسباحة والقفز والتسلق ورمي الأثقال ورفعها وفنون المبارزة والقتال كان يمارسها الرعاة دون حاجة إلى احتفاليات وتتويجات إضافة للفوتبول الذي كان يصنع من وبر الإبل أو شعر الماعز.
-القهوة هذا المشروب الأسود الساخن الذي أحيط بهالة من السحر والغموض فحرص الأتراك العثمانيون على عدم خروجه من قصور السلاطين وأحاطوا كيفية إعدادها بالسريّة والكتمان فبالغوا في تحميص حبيباتها لمحو خصائصها الظاهرية ولكنها وصلت الى أقاصي الشرق عن طريق رجل هندي أخفى حبيباتها الخضراء تحت ثيابه كما اخترقت اوروبا عن طريق جاسوس نمساوي وما لبثت أن انتشرت كالإشاعة وأرست ثقافة بأكملها فارتبطت بأسماء لامعة من محبيها فسميت أنواع بأسمائهم مثل كازنوفا وفاغنر والكاردنال( كابتشينو ) في البندقية وبلزاك في فرنسا الذي يقول انه كان يشرب أربعين فنجانا منها كل يوم أثناء الكتابة ,يعود الفضل في اكتشاف هذا المشروب الى راع يمني لاحظ تغيرا في نشاط أغنامه عندما تقبل على تناول هذه النبتة ,جرّب ذلك على نفسه فاستساغ طعمها ومفعولها …ثمّ كانت القهوة التي غزت الآفاق ومثلت في أرقى الصالونات.
ما أنبل تلك العلاقة التي تنشأ بين الراعي وقطيعه,إنّها على بساطتها درس في كل شيء لأنها العودة إلى الينابيع الأولى حيث الأسئلة الأولى والحوار النقي مع الكون وتلك الغنائية الخلاّقة التي جعلت الناقد والمفكر (باختين) يقول: إنّ كل الشعر هو إعادة إنتاج للحالة الرعويّة الأولى.
قال راع لحبيبته الراعية في هذا الشرق القديم:(شعرك قطيع ماعز يتسلّق جبل (جلعاد)..).
*كلمة ع الناي:
يكفي أن نشير بأن مهنة الرعي قد تأتمتت في الدول الغربية وأصبح الراعي يستخدم المروحيات وأجهزة الاتصالات الحديثة …ولكنه لم يفقد روحه الرعوية التي ما زالت تعجّ بالشعر والحب.