في ذكرى يوم العمال.. ساعد أبي أطول من برج ايفيل
في ذكرى يوم العمال.. ساعد أبي أطول من برج ايفيل … كان أبي يزوّدني كلّ أوّل شهر بمصروفي الشخصي من قطع النقود المعدنيّة السوداء التي صبغتها أصابعه بغبار الحديد في ذلك المنجم، وحسبته يبحث عنها ويخرجها بنفسه من باطن الأرض، ودون أن يقبضها من أحد. لم أكن أعلم أنّ للنقود لونا آخر غير ذلك الأحمر الداكن الذي يشبه الدم المتخثر … حتى أنّي كنت أتحاشى القطع النقدية ذات اللون الناصع الفاضح، أزدريها وأحيانا أتوجس منها وأشكك في صلاحيتها وجدواها …كانت نقود كلّ واحد منّا في المدرسة تتميّز بلونها, منها الناصع الطازج الخارج لتوّه من الخزنة، منها الذابل والباهت والمغمّس في الإهانة، منها المنهك والملوّح بالتعب، منها المعفّر بالأبخرة والمبلّل بالأدعية ….كانت كل قطعة معدنية تشي بهويّة صاحبها ومصدر دخل والده .. بل ومازلت أدعي أني كنت أميز مصدر النقود من رناتها، وأفرّق بين مذاقات الحلوى الواحدة حسب النقود التي ابتيعت بواسطتها.
خواطر داهمتني وأنا أتلمس وأتحسس قضبان برج ايفيل الذي قيل أنه قدّ من حديد باطن تلك الأرض.. كان عطر أنفاس أبي التي أوقفها غبار الحديد تطوف في كل زاوية من زوايا هذا المارد المعدني الذي مازال يباعد بين قدميه ويرحب بي وحدي.. خففوا الوطء يا معشر الحمقى من الزائرين.. فهذه الأدراج معجونة من عرق والدي ومعمّدة بين راحتيه.. وهي التي جعلت من برج ايفيل شامخا مثل ساعد أبي وقبضته التي ستبقى أبدا مرفوعة في سماء باريس.
قال كلمته بالعمل، وفي صمت يشبه صمت الحجارة الصاعدة إلى السماء في أقواس النصر.. النصر الذي عادة ما يقطفه الجبناء.
ربّما أراد أن يقول “دعوني أعمل ,دعوني أمرّ” أو حتى شيئا آخر من قبيل ” دعوني أعمل, أدعكم تمرّون”, لكنّه كان رجلا يريد العمل ويحبّ العمل ويقدّس العمل .. بل ويوشك يعبده..
(أتحسس الآن اسطوانة “أنت عمري ” التي كان يستمع إليها أبي حين يعود منهكا من منجم الحديد، وينزع عنه خوذته البيضاء وثوب العمل الأزرق. هذه الأغنية ذات الذوق الرفيع، ليست مجرّد عمل فني التقت فيه حنجرة أم كلثوم بريشة عبد الوهاب، وبإمرة من جمال عبد الناصر, إنما هي ذائقة عامل لا يعيش بساعده فقط , وذاكرة طفل تحت رأس رمادي الشعر .
أعدك يا أبي بأن لا أمنح مصروفا لأطفالي إلاّ ممّا كتبت أصابعي وبصمت فوق أوراق نقدية تحمل صور “الشابي” و”عليسة” و“ابن خلدون ” و”خيرالدين باشا ” و”توحيدة بن الشيخ” أول طبيبة تونسية ماتت في سن أمي التي لم يتسنّ لها التعلم، لكنها أحبت عاملا منجميا، كانت تزيل عنه التعب، كل مساء، وتستمع معه إلى “أنت عمري”.