قبلهم لم يكن هناك ( قبل) …
قبلهم لم يكن هناك ( قبل) … التقى شابان من عائلتين اقطاعيتين تتوارثان المنافسة و المجاكرة والرغبة في كسر أْنف الآخر منذ زمن بعيد .
قال الأول للثاني (وهو ينفش ريشه): هل تعلم أيها المسكين أننا حفرنا في أرض جدي (سليم آغا) عمق أربع أمتار فقط، فعثرنا على..
-الشاب الثاني(مقاطعا) على الماء… هذا أْمر عادي، نحن نعثر عليه في أرض جدي (كريم آغا) على عمق شبرين فقط .
-الشاب الأول: لا أيها المغفّل. لقد عثرنا على بقايا عواميد خشبيّة … وهذا يعني أنّ أْجدادي قد عرفوا الهواتف السلكيّة منذ زمن بعيد ..
الشاب الثاني: (بعد أن صفن قليلاً): نحن حفرنا في أْرضنا عمق عشرين متراً ولم نعثر على أي شيء…. وهذا يعني أيها المتخلف أنّ أجدادي أنا قد عرفوا (اللا ّسلكي) و(الموبايل) منذ زمن ضارب في القدم.
هذه الحادثة_ على بساطتها_تذكرني بقول الشاعر: (قبلهم لم يكن هناك قبل *ابتداء التاريخ من يوم جاؤوا).
إنها عقدة الريادة لدى بعض الدارسين والمثقفين وكأْن الأشياء لا تكتسب مشروعيتها إلاّ اذا كنا السبّاقين إليها…وقس على ذلك من فنون وآداب وعلوم وأنماط حياتية أخرى.
لماذا وعلى من هذه (الطرنبة)؟! أليست الحضارة الانسانية ملكاً للجميع، وقد ساهمنا فيها بقسط مشرّف ووفير فلماذا نفسد بهذا الاستعلاء ما قدمناه للبشرية فينقلب علينا الأمر ويصبح الآخرون مشكّكين في كل ما أعطيناه.
صحيح أنه قد بخسنا حقنا في أحيان كثيرة وأصبح ابن سينا يعرف بـ(افي سين) وابن رشد بـ(افيروس)، والخوارزمي بـ(الأوغريتم)، ولكننا بالمقابل استهلكنا ونستهلك الآن ما يقدّمه الآخرون، وهذه سنة التاريخ ومنطق حوار الحضارات … فلماذا التعامل مع الأْمر بعقد النقص أو الاستعلاء.
هل على المسرحي مثلاً أن يركن إلى خيال الظل وغيره من ظواهر الفرجة في الأعراس والمآتم والأسواق، ويقيم قطيعة معرفية مع الإغريق والرومان وغيرهم بذريعة أنه يسعى الى تأْصيل فن المسرح… (بالمناسبة، خيال الظل جاء به (ابن دنيال) من بلاد الصين في العصر العباسي)، ثم إن شعوباً كثيرة قد أبدعت في فنون وافدة وليس لها تاريخ طويل في أرضها كالروس مقارنة مع الانكليز لأن هؤلاء الأخيرين قد منعهم الإرث الشكسبيري من مغامرة التجريب والتحديث، فالذي لا كساء لديه يمد خطواته كيفما يشاء.
لقد اشتهر الإيطاليون بـ(السباغيتي) حتى ْأنسوا العالم أنه طبق جاء به الرحّالة ماركو باولو من الصين، وكذلك أنواع الرياضات والفنون وأنماط حياتية أخرى برع وطوّر فيها الناقلون أكثر من المؤسسين، فلماذا الانطواء والانزواء والخوف من الذهاب نحو الآخر خصوصاً وأننا مدجّجون بمئات السنين من الحضارة والوجود الفاعل والمتفاعل.
هل تتعارض الموسيقى التراثية مع الآلات الحديثة والملابس الحديثة والتجهيزات الحديثة؟! وكذلك العكس.
هل أن ّإتقان اللغات الأْجنبية يضر بـ(المصالح العليا للأمّة)… هل نقاطع وسائل الاتصال العصرية بذريعة أنّ أجدادنا لم يعرفوها…
للأسف، لقد باتت الأصالة لدى البعض دفاعاً شرساً وغير مبرّر عن (القدامة) والتحنيط حتى كدنا أن نكون كائنات متحفيّة وهو ما يريده الأعداء بلا شك.
لو كان الأجداد الذين نتباهى بالدفاع عن إنجازاتهم على قيد الحياة لأنكروا نسلهم الباكي والمتخاصم على أطلاله وأطلال الآخرين ونصحوا الشابين المتناحرين بزراعة تلك الأرض وإصلاحها قبل التباهي الكاذب بأسبقيّة من عرف الهاتف.
إنّ من أسلم القول بأن الشعر ديوان العرب ولا أحد سواهم، قد أدار ظهره لـ(بودلير) و(رمبو) و(بورخيس) و(شيركو بيكاز) بل وظلم المتنبي ومحمود درويش لأنّ الأخيرين لم يعودا ملكاً للعرب وحدهم…. والشعراء – كما يعلم التاريخ – لا يولدون كل يوم.
*كلمة في الزحام :
ما ضرّ أن نتناول الشاي السيلاني بنكهة النعناع المغربي والقرفة الدمشقية والزنجبيل الإيراني وفق الطقوس الانكليزية وفي فناجين صينية….. وبصحبة أصدقاء من مختلف بلدان العالم.
هي حتما ليست العولمة بمفهوم الليبراليّة الاقتصاديّة التي تشبه ثعلبا حرا داخل مزرعة مفتوحة من الدجاج (الحر).