الأول من ماي، أيار …أو (فكّروني تاني عنّك)
هل من قبيل المصادفة أن يولد أبي – العامل المنجمي البسيط – في الشمال الغربي للبلاد التونسية يوم ماي…وفي السنة التي أعدمت فيها السلطات الأمريكية العاملين (ساكو و فنزيتي) في الحادثة الشهيرة التي غدت ذكرى موشومة في أذهان العالم .
تمرّد أبي عن أصوله الإقطاعيّة، التحق بالنقابات العمّالية، وناصر المطرقة على حساب المنجل- المطرقة التي تدكّ ولا تبني- على حدّ تعبير رفاقنا التروتسكيين والمجالسيين .
لم يكن يهتمّ بالسياسة رغم انخراطه في العمل النقابي، لم يكن مثقّفاً رغم أنه يجلّ الثقافة، يكتب ويقرأ من اليمين إلى اليسار، وبالعكس…. لكنّه كان يحبّ الحياة … مثل تفاحة تقضم من كل أطرافها .
كان أبي يزوّدني كلّ أوّل شهر بـ “مصروفي الشخصي ” من النقود المعدنيّة السوداء التي صبغتها أصابعه بغبار الحديد في ذلك المنجم… ـ لم أكن أعلم أنّ للنقود لوناً آخر ـ … حتى أنّ أحدهم قد عرفها من لونها وأعادها لي بعد أن سقطت منّي سهوا في الطريق….كانت نقود كلّ واحد منّا في المدرسة تتميّز بلونها، منها الناصع الطازج الخارج لتوّه من الخزنة، منها الذابل و الملوّح بالتعب ومنها المعفّر بالأبخرة والمبلّل بالأدعية …. كانت كل قطعة معدنية تشي بهويّة صاحبها….وطريقته في صرفها على” ملذّاته الشخصية “…. بل ولها رنّتها الخاصة .
عمل أبي في باطن تلك الأرض الطيّبة زهاء نصف قرن من الزمن، حتى أعلنت رئتاه الهزيمة …ترك حصته من الهواء ورحل .
كان ضحيّة استعمار قاس واستقلال منقوص، وكأنه يردّد في صمت : ( ليت الاستعمار يعود يوماً فأحدّثه بما فعل الاستقلال).
لم يكن أبي عاملاً عاديّاً، بل كان يقتني لي الكتب المضمّخة ببصماته الحمراء ويقول لي ” ثابر وتعلّم ، كي تصبح النقود أنظف وأنصع في جيبك” … كبرت ولم ألمح نقوداً أنقى من تلك المغبرّة بين يديك يا أبي .
لم يكن ينام على غيظ أو حقد أو ضغينة ، بل على راديو تنسكب منه أغاني عبدالوهّاب و أم كلثوم وكثيرا ما تقطعها نشرات الأخبار الكاذبة .
قيل أنه أخذني إلى حفلة أم كلثوم في تونس، عند منتصف ستينات القرن الماضي، وكنت رضيعاً أبكي في حضن أمي، امتعض منّي بعض الحضور وتململوا من صراخي، إلاّ أني سكتّ وأنصتّ مثل سمّيع كبير عندما بدأت ( الست تومة) بالغناء….
كانت أغنيتاه الشهيرتان في ذلك الحفل هما ” أنت عمري “و(الأطلال)، وما زال الطفل يحتفظ بالإسطوانة وقد تعطّلت الآلة القارئة.
مازلت أنصت إلى صمتي وإصغائي في هذه الاسطوانة الغافية مع كتب قديمة مسحت فوقها أصايع أبي ونظراته التّائقة.
مازلت أنظر إلى ابني الصغير بحب كبير وهو ينصت إلى عبدالوهاب وأم كلثوم في بيتي الدمشقي الصغير….ودون أن يبكي.
مازلت صغيرا يا أبي ، ومازال عطر حضنك في ذاكرتي يا أمي… مازلت تطربينني يا أم كلثوم – أيها الهرم الذي جاء إلينا – ويا عبد الوهاب- يا كرواننا الحزين الأنيق .
كيف تلتقي الياقة الزرقاء بالياقة البيضاء في عنق رجل واحد..! إنّه ذلك العامل بالساعد والفكر ودون أن يكتب شيئاً غير الرسائل وحاجة البيت إلى مقتنيات .
1ماي، ليس يوما عاديّاً، بل يوم أن يصنع تاريخا للتاريخ، إنّه يوم الذين آمنوا بقوله -:(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)….وشعار الحزب الذي ضحك على جميع التونسيين وباعهم الوهم .
كثيرون هم الذين أفنوا العمر كدّاً ولم ير أو ينظر في أمرهم أحد .
لم أكن أريد أن أجيّر هذه المساحة البيضاء لحديث شخصي ، إنّما أردت تكريم عامل من (عوامل) كثيرة في حياتي، إنّه أبي الذي يرقد الآن بسلام إلى جوار أمّي بعد أن ذوى ساعده وبقيت قبضته مرفوعة.
قال كلمته بالعمل، وفي صمت يشبه صمت الحجارة الصاعدة إلى السماء في أقواس النصر ..النصر الذي يقطفه الأوغاد والجبناء كل يوم.
ربّما أراد أن يقول: (دعوني أعمل، دعوني أمرّ)، ربّما قال (دعوني أعمل، أدعكم تمرّون)، لكنّه يريد العمل ويحبّ العمل ويقدّس العمل …ولم يقل يوماً: (دعوني أمرّ، أدعكم تعملون).
(انت عمري )، ليست مجرّد أغنية التقت فيها حنجرة أم كلثوم بريشة عبد الوهاب، وبإمرة من جمال عبد الناصر، إنما هي ذائقة عامل لا يعيش بساعده فقط، وذاكرة طفل بلغ العشرين مرّتين ، زاد عليها قليلاً وما زال يحنّ إلى (مصروف) من نقود تقطر عرقاً وصدقاً …وما لا يقاس بالعدّادات الرقميّة .
أعدك يا أبي بأن لا أمنح (مصروفاً ) لأطفالي إلاّ ممّا كتبت أصابعي وتركت بصمتها فوق “الشابي” و”عليسة” و”ابن خلدون ” و”خيرالدين باشا “وغيرهم من تلك الصور الأيقونات على عملة هذه البلاد … بلاد التين والزيتون …والشمس التي يعتمرها شعبي الطيب كل صباح قبّعة ويقسم على انتصارها عند كلّ يوم عبوس .
*كلمة في الزحام … في اليوم العالمي للعمّال، أنظر إلى صورة تناقلتها وكالات الأنباء …طابور طويل من العمّال الفلسطينيين خلف الأسلاك الشائكة وبمحاذاة جدار الفصل العنصري ينتظرون “التصريح ” بالدخول إلى اسرائيل….لا شكّ أنّ الكثير من هؤلاء قد شارك مضطرّاً في بناء سور العار هذا .
05.05.2014