الحمار والمئذنة
(اللّي طالع الحمار (أنتو أجل قدر) ع المئذنة بينزّلو) …. مثل شاميّ عتيق وعميق، ويعني ما يعنيه في ضرورة تحمّل المسؤولية التامة لمن جاء بأمر غريب وناشز لم تعهده الجماعة ولم تستسغه… انقلب عليه السحر فطلب المشورة والمعونة بعد فوات الأوان.
المئذنة كما يعلم الجميع عالية البناء والمقام في معمار المدن و نفوس المؤمنين، لا يمكن اعتلاؤها إلاّ عبر درج حلزونيّ ضيّق ومعقّد، ثمّ أنّ الغاية الوحيدة من الصعود إليها هي رفع الأذان في الصلوات الخمس ومخاطبة الرعيّة في بلاد المسلمين لأمر طارئ ومستعجل.
إذن …لا شأن ولا مصلحة لأحد آخر في اعتلائها إلاّ لمن اتفق الناس على أهليته…. وثقتهم التامّة بنزوله فور أداء الواجب الوظيفي.
يتذكّر التاريخ حالات نادرة ومثيرة لمن صعدوا المآذن لغير غاية التكبير وإعلان الصلاة، كالمعتصم، الخليفة العباسي الذي صعد منارته الأعجوبة (سامرّاء) على ظهر حصانه في إشارة لا تخلو من الدعاية السياسية والنرجسية الإبداعية.
لم أكن أقصد من خلال هذه السطور التقديميّة إلاّ الغمز الصريح إلى حالة الارتباك التي أصابت شارع الربيع العربي بعد وصول الجماعات الاسلاميّة إلى السلطة … وبمحض إرادة الأغلبيات التي قيل أنها نادراً ما تتّفق على باطل.
(يداك أوكتاه وفوك نفخ) ..إنه مثل عربي جاهليّ هذه المرّة، وقصته المعروفة تتمثّل في أنّ أحد المغامرين الواثقين من إمكانياتهم بشكل مغلوط، قد نفخ في قربته وأحكم إغلاقها بيديه ليعبر اليمّ فوقها وتحت عيني صديقه … وحينما انفكّ الرباط، وبدأت حيلته في خذلانه، شارف الغرق، فطلب النجدة من صديقه الذي أجابه متشفّيا بعبارته الشهيرة: (يداك أوكتاه وفوك نفخ) .
كانت صناديق الاقتراع شفّافة لا يشكّ في نزاهتها …إلاّ أنّ النوايا والبيانات الانتخابية لم تكن كذلك .
كانت الديمقراطيات الغربية في نشأتها تمنع حقّ الانتخاب على من لم يسدّد ضرائبه من مستحقّات الدولة على اعتبار أنّ الاقتراع حق وواجب .. أي لا مكان في الدولة لمن لا يؤمن بكيان الدولة وحقها عليه.
صارت (ديمقراطيات الربيع العربي) تسمح لقواها الحزبيّة بالدفع للمواطن المغبون والمتخبّط مقابل شراء صوته …. وتلك هي بداية الكارثة.
ذهبنا إلى الديمقراطيّة بقلوب نظيفة وأياد متّسخة، بصناديق شفّافة ونوايا مشبوهة ,بتذاكر صالحة لرحلة واحدة وإلى الأبد … بمراكب (طارقيّة) تحترق فور الوصول .
ساعدنا – وبأنفسنا – أنكر الأصوات في الصعود إلى أعلى المنابر واعتلاء الصوامع، تأذّت الآذان واختلطت أوقات الصلاة مع أوقات الفلاح ………. ولم نقدر على إنزالها إلاّ بمرسوم شرعيّ….ومن أعلى المئذنة.
كان المنبر السياسي شبه فارغ إلاّ من أصوات النعيق والنشاز والنفاق، جاء الربيع فملأ الفراغ بفراغ أكثر وحشة وارتهانا.
أيها المغفّلون من أصحاب القلوب الطيّبة والنوايا الحسنة والاختيارات المغلوطة … ذوقوا ما فعلت أياديكم وصدّقته أهواؤكم وهتفت به حناجركم المبحوحة … وتضمّخت به أصابعكم من حبر عصيّ المحو، صباح يوم انتخابيّ كنتم تظنّونه واعداً.
صعد الحمار على المئذنة ولم نعد نعرف إنزاله من عليائه بعد أن ذاق متعة النظر من فوق.
*كلمة في الزحام:
حليب السلطة طيّب المذاق، شهيّ الاستمرار … وليس أمام الشعوب المخدوعة إلاّ فطامهم … الخطوة الأولى في الفطام مرّة وصعبة …. مثل كلّ الخطوات المؤدية إلى الخلاص…. مرّة واحدة وإلى الأبد.