الرعاة الذئاب
الرعاة الذئاب … “افزاع الذئب وترهيبه أفضل بكثير من قتله “: قاعدة ذهبيّة يعرفها كل الرعاة ممّن فجعوا في قطعانهم التي كانت آمنة قبل ظهور الذئب.
ولأنّ التلويح بالقوّة أهمّ من القوّة نفسها في أحيان كثيرة فقد استنبط البشر هذه القاعدة في حروبهم ووظّفوها لسياساتهم قصد ربح الأوراق دون استنزاف القوّة الماديّة والمغامرة بمواجهة لا أحد يعرف موعد نهايتها.
قد يغفل عن أذهاننا أنّ الذئب عدو الراعي قبل أن يكون عدوّ الأغنام، ذلك أنّ الخرفان تعلم علم اليقين أنّ مصيرها واحد: سوف تؤكل شوياً على النار أو نهشاً بين مخالب الذئاب، بعيداً عن مجتمعها القطيعي، بل وقد يحبّذ بعضها أن يسكت جوع بني جنسه الحيواني وينتهي في بطن من هو أحقّ بأكله … ودون أن تمسّه نار أو يعرض على موائد السادة اللاّحمين.
أمّا الشاة الهزيلة والمريضة والهرمة وغير الولود، فلا يضرّها سلخها أو ذبحها … بل غالباً ما يسرّها مباغتة الذئب لراعيها حتى لا يقدّمها الأخير هبة، أي “خوّة” و “كف بلاء” – بلغة الفتوّة – بدل افتراسه للخرفان اللبنيّة الصغيرة ذات اللحم الطريّ…. ثمّ أنها تعيش وتصيح مع قطيعها في الوقت بدل الضائع .
نسينا أن نذكّر بأنّ الرعاة ليسوا كلهم مسؤولين عن “رعيتهم” بالضرورة ، فمنهم الغرّ والمتقاعس والمتواكل والمستهتر وحتى المتآمر مع الذئب بقصد “التقليل من جسامة المسؤولية ” وإراحة الدماغ من التفكير في شؤون “الجماعة ” .
إنّ توفير المرعى الخصيب وضمان المورد الآمن وتوفير المكان الظليل، ليس بالأمر السهل على أولئك الذين أخلصوا لعصا الرعاية وأحبّوا مواشيهم فساروا بها نحو مواطن الكلأ آمنة مطمئنّة البال والجانب وقد اشرأبّت أعناقها طربا لمزمار سيّدها .
ولأنّ مهنة الرعي قد التصقت بحياة الرسل والأنبياء لما تتّصف به من صدق وأمانة وتوحّد مع الطبيعة المسبّحة باسم خالقها فإنّ الأمر قد التبس على “الأستاذ ” راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الاسلامية الحاكمة بأمرها في تونس الذي خطب في أنصاره ذات ليلة رمضانية في ساحة “القصبة ” قائلاً: إنّ تجمّعكم هذا هو بمثابة فتح مكّة التي طهّرها النبي عليه السلام من الرجس والأزلام .
نعم، هكذا ومن دون مواراة أو استعارة بيانيّة، يشبّه الغنوشي نفسه بالنبي وأنصاره بـ”الأنصار”…. فمن هو المسكوت عنه يا ترى في هذه الحادثة السابقة التي صفعت الناس وهزّت كيان المواطن التونسي المؤمن البسيط ؟
إذا كان ما حدث في نظر الغنوشي يوازي فتح مكّة فمن هم مشركو قريش، من هو رأس الكفر “أميّة بن خلف” الذي قتله بلال الحبشي -عبده بالأمس -، ومن هم الطلقاء؟ من هو أبو سفيان حتى ندخل بيته طلباً للأمان …. وما هي الأصنام التي على أصحابه كسرها وتطهير البلاد من رجسها؟!
لم تكن هذه الاستعارة مجازيّة، بل حقيقة تعاش، أكّدها بعض قادة وخطباء جماعة الاخوان في مصر إثر إزاحة الرئيس ” مرسي ” عبر مقاربتهم بين المقدّس في سيرة النبي العربي عليه السلام وبين الاستكلاب على السلطة من طرف هذا الفريق أو ذاك.
ولأنّنا اعتمدنا منطق المقاربة في بداية هذه السطور فإنّه يحقّ لنا الآن أن نسأل: من هو الراعي ومن هو الذئب؟ … أمّا عن الرعيّة فإنّنا ننزّهها عن القطيع احتراماً لإنسانيتها ومراعاة لخصوصيتها في ضرورة التفريق بين الحملان والنعاج والأكباش وما قد يحمل بعضها من تميّز في اللون والصوت وطريقة في الاحتجاج والتفرّد ومواجهة الذئب.
من الراعي؟ … لعلّه هو الذئب نفسه وقد تنكّر في ثوب المؤتمن عن الرعيّة خصوصا وأنّ بني جنسه قد أطلّوا برؤوسهم من كل حدب وصوب ليشاركوه الغنيمة وقد اشتمّوا رائحته …. لعلّه هو نفسه “الراعي الكذّاب” الذي ورد ذكره في القصّة المعروفة.
من الذئب الذي يقضّ مضاجعنا هذه الأيام؟: هو حتماً مسمّيات كثيرة لخطر واحد، أولها الأوضاع المعيشيّة المتردّية وآخرها الفلتان الأمني وانعدام السلم الاجتماعي .
لكنّ الهزّات الارتداديّة التي أعقبت احتجاجات المواطنين الأتراك – ” النبع غير الصافي” – للثورات في مدن الربيع العربي كفيلة بردع الذئاب وبنات آوى المتربّصة بكروم الربيع الذي مازالت ثماره حامضة وغير جاهزة للأكل .
كلمة في الزحام:
تأديب ذئاب الخراب وردعها أفضل بكثير من قتلها والتنكيل بجثثها أيها العسكر أو عصا الراعي الحقيقي …. والذي هو الشعب.