“القمرة” العربية والكوفية الفلسطينيّة
“القمرة” العربية والكوفية الفلسطينيّة…(أستوديو العودة ): محلّ تصوير فوتوغرافي قديم يمتلكه العم أبو خالد ويقع في مخيّم جنين على مشارف تلك المقبرة التي تكبر وتتسع وتزحف نحو الأحياء …على إثر كل رصاصة إسرائيلية …أو صرخة احتجاج فلسطيني.
يختفي أبو خالد بكوفيته المزمنة وأصابعه المرتجفة وراء آلة تصوير عتيقة، مثقلة بذاكرة الوجوه… وخلف نظارات تزداد سماكتها مع كل خيبة … لكنه مازال يري ما يريد … مثل صقر عجوز.. مثل أمل يقتات من حافة اليأس.
المقعد الذي يجلس إليه طالبو الصور الشمسية والباحثون عن الأوراق الثبوتيّة لا يتزحزح من مكانه…. كذلك الشهداء والموتى والمفقودون وأبطال المعارك من أولئك التي تحطّ صورهم على الجدار، مثل كهف مسحور، فكأنّما الأمر مقبرة داخل مقبرة، تتناسل كحواجز التفتيش ونقاط العودة والاستفهام.
يبدو الأمر – إلى حدّ اللحظة- اعتياديّاً ومنطقيّاً داخل الملحمة الفلسطينيّة التي تفوّقت على كل ضروب الشعر، لكنّ المريب هو أنّ من يجلس على كرسي( أستوديو العودة) ماثلاً في مواجهة كاميرا (أبو خالد)، يجد نفسه عبوساً حين يطلع من حوض التحميض رغم امتثاله لتعليمات سيّد المكان بقوله الدائم (ابتسم قليلا)…. والأكثر من ذلك، يجد وجهه (نصف وجه) بعد أن زاحت كاميرا أبي خالد عن مطرحها بفعل أصابعه المرتجفة ونظراته الواهنة من خلف الزجاج السميك.
أمّا الأكثر غرابة ومدعاة للدهشة هو أن لا يعود زبائنه للمحلّ مطالبين بصورهم بعد استشهادهم … عندها، يكتفي أبو خالد- وعلى حسابه الخاص- بتكبير صورهم داخل إطار يليق بابتسامتهم المستحيلة …. وقد شقّ أعلاه بشريط أسود كان قد استعاره من جاره بائع الأقمشة الذي ينتظر مقصّه بدوره فستان فرح مؤجّل…. و يكتفي ببيع الأعلام والأكفان.
لكنّ الكوميديا السوداء تتعلّق بمستحقّات أبي خالد الماديّة وقد وجد نفسه داخل هذه المأساة شبه منبوذ، شبه محرج، شبه معدم .. ولا غنى عنه في ذات الوقت .. مثله مثل بائعي التوابيت والأكفان والمقرئين أمام شواهد القبور.
من الصادق في مثل هذه المعادلة؟ آلة التصوير، أم آلة الزمن …. أم آلة الخيال الذي صار يلهث خلف الواقع.
ماذا يحدث لو لم يخترع الإنسان آلة التصوير التي كان سببها اكتشاف المرآة …. المرآة التي حرّضت السيدة الشرّيرة على (سنو وايت) الصبيّة البريئة المتّهمة بجمالها.
الميديا تفعل فعلها في تأجيج النفوس أو تهدئتها أو تحييدها أو تغييبها، إنها مرايا من النوع المقعّر أو المحدودب أو المسطّح… ولكن، هل تكذب المرايا؟
نعم، تكذب المرايا حين تريد الكذب عليها من حيث زاوية الرؤية (والرؤيا أيضا)، لقد سألتها السيّدة الشريرة في قصّة (سنو وايت) وكأنّ المرآة حكم …. عفواً، كيف يتم ذلك، وفق أيّ مقاييس ومن أعطاها هذا الامتياز..!؟
كيف منحت المرآة لنفسها الحقّ بالتبجّح قائلة: (ما تزال الصغيرة “سنو وايت” أجمل منك يا سيدتي)….. من قال لها إنّ بياض الثلج هو أجمل الألوان على الإطلاق؟…. أليست هذه عنصريّة مفضوحة تشي بها قصّة مكتوبة بقلم حاقد وأبيض البشرة.. ويريد التوجّه لأطفال العالم دونما استثناء.
لكنّ كاميرا (أبو خالد) في أستوديو القدس، جعلت الصورة مفتوحة نحو مليون احتمال ولكن باتجاه واحد… وبفعل عدالة القضيّة وحقّ أصحابها في العيش ضمن إطار واضح وصريح ودون أشرطة سوداء…. أو رؤية ضبابيّة ومشوّشة.
الصورة التي نخشى رؤيتها مستقبلاً في أستوديو “العودة “هو أن نرى حفيده قد حوّله وفق الأسلوب(الديجيتالي) الحديث وألاعيب “الفوتو شوب ” إلى ناد للتعارف بين القتلة وضحاياهم …. فيضع –بكبسة زرّ- الشهود الشواهد من الذين جلسوا ومثلوا إلى كرسي جدّه … يضعهم مصافحين ومبتسمين لمن سرقوا ابتسامتهم … وكأنّ الرصاص قد عاد من الصدور إلى البنادق.
كلمة في الزحام :كلمة (delete) جاهزة وموجودة أمامنا على (الكيبورد) وتعني (الإلغاء) …..ربما هذا سرّ من أسرار انطلاق الربيع العربي الذي أنعشته المواقع الاجتماعية وأقنعتنا أنه بإمكان الأنظمة الفاسدة أن ترحل بالكبس على delete.
الكاميرا تعني باللغات اللاتينية (الغرفة)….. وهي أصل التسمية العربية” قمرة” … لنتأمّل في ذلك… حتما ليست مجرّد مصادفة.
12.09.2013