مازال القلب في جهة اليسار
مازال القلب في جهة اليسار ..تقول القاعدة التي عاشها وعايشها جيلي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي: إذا لمحت في آخر الليل ضوءاً خافتاً ينبعث من خلف الستائر في شقّة باريسيّة، فاعلم أنّ الاحتمالات ثلاث:
إمّا عاشقان فرنسيان يمارسان الحب في الهزيع الأخير من الكأس والليل، غير آبهين بهذا العالم الحاقد.
أو افريقييان يمارسان متعتهما في(التدخين الملغوم) وإذهاب العقل على موسيقا بوب مارلي ومشتقّاته، غير مكترثين بالعقل و العقلاء.
أمّا الاحتمال الأخير فعربيان يتحدّثان في السياسة فوق رزم الجرائد الممنوعة في بلادهم وعلى وقع أغاني الشيخ إمام ومشتقّاته.
الاحتمالت الأخرى واردة، كالمسلم الذي يستعدّ لصلاة الفجر أوالبوذي الذي يمارس اليوغا أو المسنّ الذي يعاني الوحدة والأرق ويخشى من العتمة واللصوص … ولكن..
مازال القلب في جهة اليسار
لماذا لايلتقي عربيان في المهجر إلاّ وكان ثالثهما السياسة .؟!,يبدأ تعارفنا بالحديث عن الطقس ثم ينتهي بالأوضاع الغائمة جزئيّاً –أوكليّاً- في بلد المنشأ؟! لماذا لم نطبّق من تعاليم أرسطو غير عبارة: (الإنسان حيوان سياسي)، لماذا لا نترك السياسة للسياسيين والاقتصاد للإقتصاديين والحياة للأحياء والموت للأموات…
لماذا مازال الأموات يحكمون من خلف القبور.!؟
يبدو أنّ الأزمة تكمن في انعدام الثقة بينن المواطن ومسؤوله من الجهتين، وربّما في أزمة تشخيص الأزمة، بل بين الفرد ونفسه في أحايين كثيرة…
قيل لي-والعهدة على الراوي- أنّ مواطناً عربيّاً من بلد شقيق يعيش ربيعه الآن بتعثّر كبير، كان قد كتب تقريراً في نفسه يتّهمها فيها بالتقاعس والتآمر على أمن البلاد ..! وسلّمه إلى الجهات المختصّة … فما كان من الأخيرة إلاّ أن أحالته على التحقيق بتهمة التبلّي والادّعاء الكاذب ….!.
المهتمّون بالسياسة من غير المتخصّصين يشبهون من يقف على رأس زوجته مشرفاً في المطبخ وهي تقلي بيضة أو من تجلس إلى جانب زوجها في السيارة وترشده دون أن تمتلك رخصة سياقة.
مرّة أحرى تشخّص الأزمة وتتلخّص في الفرّان الذي يحرق نصف الخبز والزبون الذي لا يعرف طعم فمه، مرّة أخرى تعاد البيضة إلى بطن الدجاجة والدجاجة إلى جوف البيضة …إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تذكّرت ما قاله لي السائح العجوز الأوروبي حين لمحني على شاطئ البحر أقرأ كتاب (ماالعمل) لرفيق المراهقة الثورية آنذاك ( فلادمير ايليتش ايليانوف لينين)، قال: لماذا أنت مهووس بالسياسة، اتركها لأهلها وتعال لنستمتع بمياه البحر، قدّر هذه النعمة التي منحها إياكم الله أيها التونسي الحزين قبل الأوان )..
استدرك بعدها قائلاً وهو ينشّف جسده المسنّ: (معك حق، فمن لم يكن يسارياً في العشرين فهو بلا قلب ومن لم يكن يمينيّاً بعد الأربعين فهو بلا عقل).
أذكر أنّي قرأت هذه العبارة لونستون تشرشل، ذاك الذي أخذ نوبل في الأدب وليس في السياسة المتقلّبة، لكنّ قلبي مازال على اليسار، أمّا الكبد (رمز الايمان والنوايا) فلم يتزحزح من جهة اليمين.
تذكّرت كل هذا وأنا أحوم ببصري في منزل الطفولة وأتفحّص غرفتي التي مازالت تلتصق على جدارها صورة غيفارا بقبّعته الأيقونة ونجمته الحمراء، تجاورها غرفة المرحومة أمي وقد تصدّرتها آيات الكرسي… أمّا ساعة الجدار فما زالت تدق… يميناً ويساراً دونما اكتراث.