مدن الغرب ومدن العرب
مدن الغرب ومدن العرب
[ 1 ]
المدن كالنّساء,
نغازلها ولا تغازلنا ,
نحبّها وتحبّ علينا ,,
نشتاق ونحنّ إليها ,
نودّعها ولا تودّعنا,
منها المتّشحات بالأسوار والأسرار والحكايا والمحصّنات بقلاع نظنّها كانت منيعة..
ومنها المتبرّجات على الشواطىء والأنهار والغرباء..
ومنها من تحمل رائحة القرية تماما كحبّ المراهقة الأولى.
[ 2 ]
لا تدخل؛
مدينة دون حقيبة ولا تضيّعها فيها لأنك سوف تحتاجها عند الخروج..
لا تبح؛
بأسرارك لمدينة مسيّجة لأنّها سوف تسخر منك.. لا تبحث؛
عن مدينة في مدينة فلن تجدها..
لا تنس؛
لكنتك فيها وليعتد لسانك مذاق طعامها قبل لغتها..
[ 3 ]
قال جدّي :
عليك ببصلها فور أن تصلها فإنّ البصل يذهب كلّ آفة محتملة واسع أن تكون دليلا للغرباء والتائهين فإنّك حتما ستعرف فيها ما لا يعرفه الذي نشأ فيها. وافرح لفرحها واحزن لحزنها بشيء من التحفّظ واعلم يا بني أنّ المحبّة مفتاح كلّ مدينة وعليك سلام الله والعباد والمدن .
هذه الكلمة أحببت أن أتركها لابني –فقطـ كي لا يقول يوما أنّي لم أترك له شيئا .
[ 4 ]
أردت متعمّدا أن أتوخّى أسلوب الحكيم المرزوق بالذريّة الصالحة بعد أن توقّف نظري أمام صور في مدن علّمتني الإخلاص والتمدّن وكراهيّة القبح.
…
مدن الغرب
باريس
مدينة الذين لا مدن لهم,..
يكاد المرء أن يجد مفقوديه وفاقديه فيها,
هنا أروع رائحة قهوة في الصباح,
فيها تعشق لحظة فتح الجريدة وتترحّم على (مونتسكيو) و (جان جاك روسو) و (فولتير) وتعشق سجنا كان اسمه (الباستيل)
Paris je t aime
امستردام
يقال إنّ الله خلق العالم في ستة أيام وترك للهولنديين حريّة بناء مدينتهم في اليوم السابع. امستردام,
المدينة الهاربة من دفتر طفل,
درّاجاتها الهوائيّة غالبا ما أتعدّى على ممرّاتها وأظنها أرصفة للمتسكّعين,
ورودها تنبعث منها أنغام جاك بريل عن بحّارتها المجانين الذين أسّسوا نيويورك وغزوا اندونيسيا ثمّ جلسوا يشربون البيرة ويغازلون النساء (المرافىء ).
[…]
بروكسل
ثنائيّة ثقافية وتعايش غريب بين الفلامون والفرنكوفون، توحّدهم أجراس الكاتدرائيات في تتناغمها مع أصوات الأكل المقدّس لدى البلجيك :
المحار, بطاطا الفريت والشوربة السّاخنة كعواطفهم وطرائفهم التي تخفّف من برودة الأوروبيين.
روما
مدينة الجنون الممتع والتطرّف في الملذّات وكأنها تسخر من تاريخها وأوابدها وتتآمر على قياصرتها , أمشي فيها كقرطاجي أسير ومهزوم بفتنتها وأتساءل (كيف وجد أجداد هؤلاء الوقت الكافي للنحت والمعمار والحروب).
برشلونة
هذا هو شارع (لارمبلا) أو الرملة بالعربي كما يؤكّد المقيمون فيها من العرب وهذا هو تمثال كريستوف الذي يشير بيده الى البحر ـ سامح الله الإدريسي الذي أمدّه بالخرائط ـ وهذا أنا أستظلّ تحته مثل هنديّ أحمر يكاد يهرب من جداريته وهذه ساحة كاتلونيا تراقصها غيتارات الغجر وهذه الأسماك تتبرّج راقصة في الميناء ولا تجد من يجد الوقت لاصطيادها ,برشلونة فيها (برشه) متعة و(برشه)حب و(برشه) حياة.
لندن
تغيب الشمس هنا خجلا من سكّان المستعمرات القديمة الذين لوّحت جلودهم وقلوبهم أو ربّما لأنها ليست في حاجة للشروق في عاصمة الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس, لندن مدينة الفخامة والتقاليد في كل شيء, حتى لدى الثائرين على التقاليد , إنهم يذهبون بعيدا نحو الآخر ولكنهم لا يستخدمون أيديهم إلا للمصافحة ؟!.. ربما كان لديهم وسائل أخرى.
زوريخ
هل أنا أتجوّل في بطاقة بريديّة أم ماذا؟! ..
لماذا يصرّون على صناعة الساعات وتصديرها إلى العالم؟..
لماذا يبيعون البنادق والسكاكين في أسواقهم؟.
لماذا لايحبّون المزح والإسترخاء ولديهم هذا الكم الهائل من البنوك؟!..
لماذا يتكلّم فيها رجال الأمن بكل اللّغات؟لماذا هذا الهوس بصناعة الأجراس وتعليقها في رقاب الأبقار المدلّلة؟..
برلين
كل شيء فيها جدّي وشاهق من هيغل إلى سيارة المرسيدس, مدينة لا تطلعك إلاّ على ما تقرّره وتختاره هي من ألبومها الشخصي, فهذه البوّابة دون سور وأقفال وحرّاس تماما مثل باب جحا في شرقنا الحائر وهذه الأحجار الصغيرة التي تباع في الأكشاك هي من بقايا جدار كان يقسمها مثل سكّين ظالم,إنها مارد أوروبي عاد إليه رشده ولم يخسر هيبته.
[ 5 ]
أي بني هذه مدن حملت رائحتها في حقيبتي وتسكّعت في شوارعها كشيخ من أرض مكناس أمّا عن مدننا العربيّة ففي العين الثانية من جراب السفر وسأحدّثك عنها يوما كعاشق مهزوم.
مدن العرب
[ 1 ]
هذه الوجوه التي دبغتها الشمس حبّا هم قومك,.. هذه الرّاحات التي لا تكفّ تلوّح لحافلات السيّاح كسواعد ساعات الصالونات هم قومك,..
هذه الابتسامات التعبة وهي تقاوم الاصفرار والتسوّس والغادرين هم قومك,..
هذه الظلال التي عليها يتّكؤ الكبار وتلك التي يتفيّؤ تحتها أحفادهم هي لقومك,..
هذه الطّيبة التي تُسكب في الفناجين والقدور وتنحر للغرباء هي لقومك,..
هذه المؤامرات التي تحاك في القصور البعيدة وخلف البحار هي على قومك, فانظر يا بني كم أنّ قومك مهمّون ومنسيّون كالأساطير.
[ 2 ]
أولئك الذين لم تكن تستريح تحت حوافر خيولهم الأرض, يثيرون خلفهم النقع والغبار والعاشقات والأقاويل, تداعب الريح غررهم السّوداء, يمضون كالصّباحات الواعدة ولا ينحنون إلاّ لله وقطف الزهور وتقبيل أيادي السيّدات وجباه الأطفال, أولئك الذين لا يترجّلون إلاّ ليصافحوا أو يموتوا.
بنوا مدنا, همسوا لها بأسرار ثم رحلوا فما زال صمتها يثير غيظ الغرباء والحانقين:
بغداد
مالي ولأبي جعفر المنصور, دخلتك يافعاً ومعتزلا ومحبّا لحلقات العلم كواصل بن عطاء وليس اعتزاليّا كأجدادي (الأغالبة), لن أذكر منك الأحياء التي تذكر في نشرات الأخبار كي لا أزيد من جراحك, بغداد تذكّري (حيدر خَانهْ) والدينار الذي كان بثلاث دولارات واللحّام الذي أهداني ثلاث كيلو من اللحم حين طلبت نصفا, فقط كي لا أعطّل شغله… سلامي إلى من تبقّى من عائلته.
القاهرة
بناها المعز وفتحها جوهر,
ولكن من أين انطلقوا؟! …
من تونس,
نعم..
لن أدخل معك في سجال
وأنت مدينة السجال
فلن يفيدني هذا
أيتها التي أرادت أن تقهر (سامرّاء), ولكنّي أحبّك كبيرم ونجيب سرور وصلاح جاهين والأبنودي وأحب أن ألتجئ إليك كأبي خليل القباني ويعقوب صنّوع ومارون نقّاش, أفخر بك أيتها الأم الرؤوم لقد هزمتني رحابتك.
بيروت
لست معقّدا أو مكبوتا كي أتحسّر على نسائك ومرابعك, لكنّي أحبّك وأنت تحاربين الحرب بالكتب والرقص والسهر, بيروت أنا أوّل من يحبّك حين يملّ الآخرون من حبّك لأنّ نزار كان على حق ومحبّيك كانوا على حق.. وحتى كارهيك أظنّهم كانوا على حق ,
بيروت مرفأ المرافئ,
مرفأ كلّ شيء,
ولا قدر للمرافئ إلاّ الانتظار.
طنجة
قال عنها محمد شكري : (صباح الخير أيها الليليون, صباح الخير أيها النهاريون, صباح الخير طنجة, أيتها المدينة المنغمسة في الزمن الزئبقي)..
صديقي جان جنيه يرقد فوق هذا القبر عند هذا المحيط!.. ما أغرب هذا الرجل وما أقربه إلي، إنه كان قد سكن المحطّات ومات فيها ودفن إليها وما زال ينتظر!..
الجزائر
ما أكبر الفكرة وما أبسط المدينة وما أشرس عشّاقها, الجزائر مدينة لا تتقن إلاّ شيئين : الحب أو اللاّحب, الجزائر أو اللاجزائر …ما أنقى هذه المدينة وما أفصحها وما (أرجلها).
حلب
المدينة التي ما زالت تصرّ على حلبيتها, تحرس ضجيحها القدود ويحرس طيبتها الزعتر، واحتمال اتساخاتها الصّابون ولا تسلّم مفاتيحها إلاّ لأبنائها, مدينة كعمّال الميكانيك لا تكاد تعرفها في النهار ولكنّها متأنّقة في الليل ومتعالية ومنيعة كأصوات منشديها, اعذريني حلب, علّمتني أنتِ ألاّ أهيم بمدينتين.
حماه
كما النواعير دائما, لا تعصي عاصيها, تخضرّ المروج لدموعها ويغنّي البدو لنحيبها ولا تعبأ بغصّة الطحالب, هل جئت ترسب طحالب في حلق نواعيرَ الزمن؟.. هل يعمّدك ماؤهم ؟هل يرقصك طحن أضراس الخشب الغارق؟!.. سدّ أذنيك بسبّابتيك ولا تنصت لحكايا الزمن المتصابي واعبر إلى الضفّة الأخرى فلن يتّفق عاصيان.
عمّان
قد لا تغري شوارعها النازلة والصاعدة بالتسكّع المريح وقد تصادف كثيرين وكثيرات يتفسّحون بسيّاراتهم أو يمارسون رياضة المشي المتعب ولكنّها تحيلك إلى اصطياد خطوات الأصدقاء : تيسير نظمي, رسمي أبو علي, علي العامري, جهاد هديب, حسين جلعاد, وآخرين من الذين تقصّدت عدم ذكر أسمائهم كي يزعلوا منّي وما أطرف أن تستفزّ أحدهم بمحبّة .
وأخيرا..
أي بني, هناك مدينتان عصيّتان عن الوصف والحديث والمسامرة ـ والمدن أسرار ـ ولن أحدّثك عنهما في وضح النهار كي لا تنجب أولادا صلعانا على قول جدّتي, وكي لا تكون شهادتي مجروحة, لا ينبغي للواحد أن يغازل جلده وقامته ولون عينيه كي لا يتّهم بالنرجسيّة, إنّهما تونس ودمشق, ولك أن تكتشف… وسوف لن تكشف إلاّ قليلا.