مقامة من هذا الزمان
مقامة من هذا الزمان…شخصيا، لم أكن أعلم بوجود احتفالية تسمى “يوم الرجل” في مثل هذه الأيام من كل عام، والتي يحلق فيها الرجال ذقونهم ويبقون على شواربهم في دلالة رمزية على الاهتمام بمشاكل الرجل الصحية والنفسية.. وليس المالية طبعا.
ربما، وبسبب ذلك، لم أعر هذا اليوم اهتماما ثم أني ـ ومثل غالبية التونسيين ـ لا أربي شاربي لأني لا أحب الحلفان كثيرا كما يفعل رجال “باب الحارة”.
البارحة التقيت برجل من بلادنا ذي شارب يقف فوقه الطير كما يقال. دخل المطعم مدججا بالخواتم، يطوق عنقه بعقد ذهبي ومعصمه بساعة فخمة. اقترب من طاولتنا أنا وصديقيّ، سلّم علينا بقوة، اكتفى بقوله “بعد إذنكم” وسحب كرسيا وجلس بعد أن وضع على الطاولة موبايل وعلبة سجائر من أغلى الأنواع.
قال وهو يفتل شاربه: أنا أحتفل بهذا اليوم منذ أعوام كما يفعلون في أميركا وأستراليا التي عشت فيها طويلا.. رجال بلادنا مازالوا متخلفين ولا يواكبون العصر.. حاشاكم أنتم طبعا.. واضح أنكم مثقفون وفنانون.
تبادلت أنا وصديقاي نظرات الاستغراب والصمت الذي قاطعه أبو الشارب الكثيف بطلب قائمة الطعام والشراب ثم قال وهو يتفحصها: لماذا طاولتكم فقيرة هكذا؟ اطلبوا ما تشاؤون.. اعتبروني أخا لكم.. أنا “ما تهمنيش الفلوس”، وسخ دار الدنيا كما كان يقول المرحوم أبي.
أومأ الرجل الذي لا تهمه الفلوس إلى “الميتر” الذي قدم مسرعا وبدأ يطلب منه أنواع فخمة من الأطباق والمشروبات، وما هي إلا دقائق حتى باتت طاولتنا عامرة. رفع كأسه مع عبارة ” تشيرز” وطفق يتحدث عن مشاريعه وزياراته لمدن مثل سيدني، فلوريدا، لاس فيغاس، وصداقاته للمشاهير على طاولات القمار في موناكو التي خسر فيها ثروة كبيرة، ولكن “ما تهمنيش الفلوس”، العبارة التي يرددها دائما بعد الحديث عن صفقة أو مغامرة مصرفية.
استحوذ الرجل ذو الشارب الكثيف على الحديث دون أن يترك لنا أدنى فرصة لحوار جانبي. الحقيقة أن حديثه كان رشيقا لا يخلو من الطرافة والمعلومات، وإن كانت غالبيتها من ذاك النوع الاستعراضي.
واضح أنه يتقن كل أنواع الإيتيكيت وفن المائدة، ابتداء من طرائق اختيار الطبق المناسب مع الشراب المناسب، ووصولا إلى نصف السيجار الذي أخرجه من جيب سترته وأشعله بقداحة الديبون.
وفي الأثناء، دخل زبون فتغيرت ملامح صاحبنا ووضع نظارة سوداء كان قد أخرجها بارتباك من جيبه ثم أمسك بالآيفون وغاب إلى الخارج.. ركض خلفه الزبون مسرعا، وما لبث أن عاد، اتجه إلينا وأخبرنا بحكاية الرجل ذي الشارب الكثبف، والأكسسوارات المزيفة، والذي يتنقل بين قرى ومدن البلاد، وختمها بالسؤال إن كان قال لنا” ما تهمنيش الفلوس”.. عندها أدركنا أننا كنا مع أبي الفتح الإسكندري في مقامة همذانية معاصرة.