هبوط اضطراري …
هبوط اضطراري … ليس هناك أصعب من حالتي الإقلاع والهبوط في فن الكتابة , تماما مثل رحلة الطيران .
سأبدأ بتعليمات المضيفة حول إجراءات السلامة قبل الانطلاق:
عزيزي القارئ في حالة السأم والملل، لديك عدّة مخارج للطوارئ، أوّلها أن تمزّق الورق الذي بين يديك وآخرها أن تشتم الكابتن الكاتب وتلعن الساعة التي سافرت فيها على متن سطوره وبرفقة طاقمه من القرّاء وشركة الملاحة الصحفيّة أو الأدبيّة التي يعمل فيها.
عزيزي القارئ، لديك تحت الكرسي سترة للنجاة اسمها الأرض … وما عليك في حالة الملل إلاّ أن تمسّح الأرض بما كتب الكابتن .
في حالة الاختناق وانخفاض درجة الحرارة الكتابيّة إلى ما تحت الصفر، سينزل وبشكل آلي قناع لتستنشق الهواء النظيف من روائع الموسيقى والأدب الجميل والفن الراقي، عسى أن ينسيك ما( شخبره) الكابتن من (تخبيصات) … وفي حالة عدم نزوله، اضغط على الزرّ الأيمن فستنزل فوق رأسك مكتبة من المجلّدات التراثيّة وتصيبك بالشلل النصفي كما حدث مع الجاحظ … ولكن لا تحزن عزيزي القارئ فالفالج أهون من الأميّة الثقافية واستغباء القرّاء.
إذا كبست على الزرّ الأيسر فستنزل فوق رأسك –وبشكل آلي- مكتبة حمراء، تنظر إلى العالم بعين واحدة، لكنّها تتحفك بروائع تشيخوف و غوركي وتولستوي و دوستوفسكي.
عزيزي الراكب القارئ، لاتنس أن تربط حزام التركيز وتضع نظّارات القراءة فوق أرنبة أنفك في حالتي الإقلاع والنزول والمطبّات الهوائيّة التي تسبّبها عواصف الكلام.
طاقم الرحلة من المنضّدين والمدقّقين والمخرجين وعمّال المطابع وأمناء التحرير يرحّب بكم ويتمنّى لكم رحلة شاقّة فوق سحاب السطور.
لدينا وجبات شهيّة من الكلمات المتقاطعة وأخبار النجوم وما طاب لكم من قصّ ولصق وصحافة صفراء في حالة الملل… ولذوي الاحتياجات الكثيرة من الأميين .
إن كان برفقتكم أطفال فيسرّ طاقم الرحلة أن يقدّم لهم بعض الألعاب المفزعة لتحريضهم على العنف، بغية الدفاع عن النفس التي حرّم الله قتلها إلاّ بالحق .
أعزّائي ركّاب السطور والمواقف والآراء، لدينا سوق حرّة طائرة، تبيع كلّ شيء من الإيزو الثقافي -بالدولار واليورو والعملة المحليّة – ما عدا الكتابات المسمّمة للأبدان والملوّثة للبيئة الأدبيّة …
عزيزي القارئ، ستقلع طائرة الكتابيّة الورقيّة بعد قليل، الرجاء شدّ الأحزمة … ومن ليس له حزام من مرتدي الجلاّبيات والعباءات فليشدّ على بطنه ..لأنّ البطون الجائعة لا تقرأ، لا تفهم ولا تكبر مثل الرؤوس والجيوب.
تحذير أخير: الشرود ممنوع أثناء رحلة القراءة، كما يمنع منعا باتّا التفكير المسبق والحكم المسبق والإعجاب المسبق والشتم المسبق… ورمي الأوراق في دورات المياه.
أعزّائي ركّاب الورق، إليكم كلمة الكابتن الكاتب بعد الإقلاع:
-صوت الكابتن: صباح الخير، أو مساء الخير، أنا (فلان) قائد طاقم الرحلة المتّجهة نحو النسيان، أرحّب بكم على متن الرحلة رقم (سفر) – مثل كلّ مرّة- لأنّ الكتابة لا يمكن لها أن تنطلق إلاّ من درجة الصفر، أقلعنا الآن – وبعد أن أخليت المدارج وجفّت الأقلام و الصحف.
نحلّق على ارتفاع ثمانية آلاف قدم أو ما يزيد عن سطح الجهل والأميّة، درجة الحرارة في الخارج عاديّة جدّاً للعاديين جدّاً… أمّا في الداخل فترتفع بارتفاع الهامات وتنزل بنزولها …. سنمرّ بمطبّات كتابيّة، فلا تقلقوا ولا تلقوا بأنفسكم إلاّ إلى الأعلى خشية إملاق … لأنّ قانون الجاذبيّة في الكتابة لا يكون إلاّ نحو الأعلى .
أرجو التزام الهدوء في حالات الاختطاف والإرهاب وتحويل الوجهات، عفواً، هل قلت (تحويل الوجهات)… آسف، أنا لا أعرف إلى أيّ وجهة أتّجه… إنّها حالة الكتابة على أيّ حال… وكذلك القراءة.
طائرتنا الورقيّة تحلّق الآن، فقدنا الاتّصال مع أبراج المراقبة… لا تخافوا، هذا أمر جيّد في الطيران الورقي ما دمنا نملك بوصلتنا الخاصّة.
آسف، يبدو أنّ عطباً قد حلّ على متن الطائرة، لقد خلص الحبر وانقطع المدّ الكهربائي عن الكمبيوتر..!.. لا أستطيع إتمام الرحلة، يرجى النزول في اتجاه الأعلى وتخيّل ما يمكن أن أكمله على هذه الصفحة.
*هبوط اضطراري:
صدق المخرج الإسباني المبدع (لويس بونويل) حين قال: أنا أخاف من الطائرة – فقط- حينما يكون كلّ شيء على ما يرام.