هل الصورة أصدق أنباء من الكتب
هل الصورة أصدق أنباء من الكتب …أكثر ما يفسد الصورة هو شرحها والتعليق عليها، ذلك أنّ الصورة بالغة راشدة ولا تحتاج إلى وصيّ أو وكيل حصريّ يحرّف أقوالها ويعتّم على مقاصدها الكثيرة والمتنوّعة في آلاف العيون.
الذين يحاولون تحويل الصورة إلى كلام صنفان:
الأوّل توصيفيّ : يشبه معلّقا رياضيّا يعمل في التلفزيون بلغة الإذاعة كأن يحدّثك عن التمريرات الكرويّة وأنت تشاهدها أمامك والثاني: تزويري تعسّفيّ , يصادر مخيّلتك ويحاول إقناعك بأنّ الأحمر يعني الحب والأصفر الغيرة والأبيض النقاء وإلى غير ذلك من شتّى ضروب التسطيح.
أعتقد أنّ الحالة الوحيدة التي تقرأ فيها الصورة قراءة واحدة ويعلّق عليها بطريقة واحدة هي أن تكون شعاعيّة قادمة من مخبر مختص وفي يد طبيب مختصّ .
ألم يفشل فيلم(الديكتاتور) لشارلي شابلن لأنّه كان ناطقا بعد سلسلة من الروائع البليغة بصمتها ثمّ أنّه تناول شخصيّة الزعيم النازي بكلام عادي لم يضف شيئا إلى ما قالته الصحافة ولا إلى الصورة السينمائيّة التي أساء إليها وأضعفها بمونولوجه الطويل.
قد تخدم الصورة اللغة على سبيل التوثيق ولكنّ العكس لا يصحّ إلاّ في حالة القراءة النقديّة للصورة التي تطرح نفسها فنّاً لا حدثاً، ومع ذلك تبقى مجرّد قراءة .
ليت بعض المخرجين العرب يفهمون أنّ للصورة لغة وللحوار لغة أخرى يتّفق فيها الطرفان على الاختلاف في الدلالة، يتناظران ويتحاوران، يتآمر أحدهما على الآخر ولكنه لا يحاول شرحه أبداً.
أسوأ أنواع الكاريكاتير مثلاً هي تلك التي يكثر فيها صاحبها من الكلام والحوارات غير واثق من قوّة ريشته ومتانة فكرته وذكاء متلقّيه أمّا أسوأها على الإطلاق فتلك التي تفهمها في لمح البصر.
أعتقد أنّ الفنّان الحقيقيّ هو ذاك الذي يورّط متلقّيه في لعبة الالتباس ويجعل منه شريكاً، ألم يقل أرسطو):نصف الحقيقة عندك ونصفها عند الآخر، إنّها ليست جاهزة فخاصيّتها التجادل) …ولكن كيف لنا أن نبحث عن الحقيقة في صورة التقطت من الواقع الجاري حولنا دون أيّ تحوير ؟.
هذه الصورة تعلّمنا أنّ الحقيقة تنّين أسطوريّ بألف رأس وألف لسان من لهب، لقد ضربت عرض الحائط بنخبويّة الخبر وحكره في الأوساط المتعلّمة، زعزعت الثقة في الكتابة الإخبارية والأحاديّة وكادت أن تسحب الورق من تحت أقلامنا … كلّ ذلك دون أن تحيد عن المقولة الذهبيّة في الإعلام الاحترافي وهي أنّ الخبر مقدّس، لكنّ الرأي حر.
مكر الصورة أنها لا تجعل المعنى في قلب ملتقطها أو صيّادها ..أي (مؤلّفها) وحده، بل في كل عين تشاهدها على طريقتها وتترك المعنى المطلق في قلب المشهد الذي لن يتكرّر أبداً.
إنّ صورتي الشخصيّة على هذه الصفحة – مثلا – لا تخصّني الآن إطلاقا ,ذلك أنّها ساعة أخذت لي لم أكن أفكّر بهذه السطور …ولقد جرت العادة أن ننظر في صورة صاحب المقال ونقارن بينها وبين المادة المكتوبة ثمّ نعلّق عليها في عقلنا الباطن.