هل نقول: (برافو أبو مازن)
هل نقول: (برافو أبو مازن) ..لا بأس ,نعرف أنها شبه دولة,نصف اعتراف ,ثلث حدود,ربع مواطنة ,ظلال علم ,ذراع مقعد…لكنها وطن بحجم شعر محمود درويش وحلم ياسر عرفات …وإن كانت أصغر بكثير من عناد شعب مازال يصنع الأسطورة والمعجزات.
هل نقول (برافو ) ,فعلها أبو مازن الذي هطل الشيب على رأسه باكرا كما هطلت الشتائم والاتّهامات والتجريحات التي أصابته من أجل هذا الصيد الثمين …..عجبا ,هل صرنا نسمّي حقّنا صيدا فنقنصه قنصا..!؟ .
هل بإمكان محمود عباس أن يردّد الآن العبارة التونسيّة الربيعيّة الشهيرة :(هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخيّة) ,أم أنّ برعما واحدا لا يعلن الربيع ..والأسماء لا تولد قبل مسمّياتها …فلطالما انتفخ بطن بحمل كاذب.
مهما يكن من أمر ,ومهما أفرطنا في الفرح والتفاؤل الحذرين فما من أحد ينكر أن أبا مازن قد ناور بحنكة سلفه (الختيار) وتحمّل ظلم ذوي القربى قبل الأعداء ,مثل جبل لا يهزّه ريح …في سبيل أن تقع عيوننا على خارطة فلسطين اسما ومسمّى هذه المرّة …و فوق كرة أرضيّة ما فتئت تركلها أقدام المتعجرفين الكبار ويتلاعب بها المتغطرسون.
انتهى اليوم الذي كان يقول لنا الصهاينة فيه : (فلسطين لا توجد إلاّ في رؤوسكم الصغيرة أيها الذين لا تجيدون الحوار) , صار للفلسطينيين الآن نصف كلمة مسموعة ,أنصاف تنديد وتأييد وتحفّظ واعتراض واستنكاف …نصف اعتراف وتبنّ في المجتمع الدولي البطريركي …مثل حال عنترة بن شدّاد قبل أن تبصم له القبيلة على صكّ قبوله بين أفرادها حرّا طليقا…ومن ثمّ فارسا لا يشقّ له غبار..
من قال إنّ طاولات التفاوض لا تأتي أكلها ؟ , لكنّه التفاوض المضني والحوار المسؤول الذي يجب أن ينطق بلسان كل الشهداء والمشرّدين والمنكوبين …وقبل ذلك كلّه ,ورقة المقاومة المشروعة التي تجعل كرسيّ الحوار ممتلئا بصاحبه الذي أودعه شعبه أمانة التحرير والاستقلال.
علّمنا التاريخ أنّ السياسة دون حاضن كفاحيّ تحريريّ هي مجرّد مضيعة للوقت ومبارزة كلاميّة لا سوق لديها إلاّ في الجرائد ونشرات الأخبار ,كما أنّ المقاومة العزلاء وغير المتكافئة هي – على بطوليتها وملحميتها – ضرب من الانتحار ونزف دائم لطاقات الأجيال الحالمة بمستقبل دون سلاح .
أمّا الأهمّ من ذلك كلّه فهو الثقة والإجماع الذين يوليهما الشعب لقياداته ونخبه السياسية دون الانزلاق إلى مستنقع التمجيد المطلق للزعامات وعبادة الأفراد والنفخ في الشعارات الاستقطابيّة التي من شأنها أن تصنع دكتاتوريات صغيرة تتنافس على الفراغ والهزيمة ولا تستمع إلاّ لصوتها ,ودون نتائج على الأرض , مثل ديكة تصيح فوق المزابل وتعتقد أنّ الشمس تشرق بفضل صياحها.
علّمنا التاريخ أيضا أنّ الانقسامات هي أوبئة الثورات على مرّ العصور وغنيمة الخصوم والأعداء , إنها الوجبة التي يتناولها المتربّص بك (على البارد المستريح) , بعد أن يهيّأ لها على نار باردة وفي غفلة من المزايدات والمشاحنات.
لم تأمن القضيّة الفلسطينيّة من هذا المرض العضال بسبب المصالح الإقليميّة والدوليّة تحت ذرائع (قومجيّة) و(اسلامويّة) أو غيرها ,فأوشكت أن تكون مثل الولد الذي كادت أن تقطع أوصاله تجاذبا بين مدّعي الأبوّة ,ولم تشف تماما رغم بوارق الأمل الأخيرة وعودة الفرقاء إلى رشدهم ,لكنّ ما حصل أخيرا كان خطوة طيّبة واثقة وتحمل طعم الفوز ..وكان صفعة لدولة اسرائيل التي طالما اصطادت في المياه العكرة وقنصت في الأجواء الغائمة .
فسدت الطبخة التي كانت تعدّها حكومة تل أبيب وحلفاؤها إذن ,وصار من الضروري بالنسبة لها بعد هذه الصفعة المدوّية أن تتّجه نحو النفخ أكثر في النار التي يمكن أن يمتدّ لهيبها ويعجز حتى إطفائيو صفّها عن إخماده.
بدأت بالإعلان عن زرع المستوطنات في حملة مسعورة وكأنّها تستبق اليوم الذي ستعلن فيه فلسطين دولة كاملة العضويّة والسيادة ,وتقول للشعب الفلسطيني وقيادته :(تحمّلوا الآن مسؤولية ما ذهبتم إليه وذوقوا عقبات هذا الابتهاج ).
لكنّ الشعب هذه المرّة لن يقول (اللهم اعطنا خير هالفرحة) ,ذلك أنّ تاريخه مع الفرح شحيح ,بل معدوم …وهو يعلم أنّ سفن اسرائيل لم تعد سيّدة الرياح وأنّ أمواج الكثير من العرب لم تعد صالحة للركوب.
ليغفر لنا السادة القرّاء هذه الجرعة الزائدة من التفاؤل بعد زمن طويل من الكتابة بالحبر الأسود ,ليعذرونا إن رفعنا القبّعة لأوّل مرّة – وعلى غير عادتنا – أمام أحد الساسة العرب بعد أن برهن لخصومه في الداخل والخارج أنه جدير بحمل وزر هذه القضيّة ,لا تودّدا أو تحبّبا في شخصه بل اعتراف بجهد يذكر فيشكر…….أمّا جميع قبّعات العالم فيجب أن ترفع لكوفيّة فلسطينيّة أقسمت على انتصار الشمس.
*كلمة في الزحام :
هكذا وفي زمن أطول من ليل الجائع والمقهور نحتفي بنجمتنا البعيدة …هكذا وفي سفر الغرق والطوفان نحتمي بخشبة تطفو ..لعلّ الشاطئ بات قريبا.