خاص : إن مجرد تبني فكرة (صراع الأخوة) في أي عمل روائي أو تلفزيوني، يعني الدخول في أعقد أنواع الصراع، وأن الجاذبية الدرامية ستحقق نتائج ملموسة وبسرعة، لأن الفكرة بحد ذاتها، جاءت في روائع الأدب العالمي، وحشدت من إعجاب القراء والنقاد ما يستحق الوقوف عندها، على الأقل لأن الفكرة بنى عليها الكاتب الروسي الكبير ديستويفسكي في رائعته الروائية (الإخوة كارامازوف)، كما بنى عليها الكاتب الرائع نيكوس كازانتزاكي في روايته (الأخوة الأعداء)..
وفكرة (الأخوة الأعداء)، وجدت مع بداية الخليقة في صراع (قابيل وهابيل) بعد نزول آدم وحواء إلى الأرض نتيجة الخطيئة الأولى، بمعنى آخر كان انتقاء هذا الموضوع، موفقاً في لعبة البناء على عمل درامي يريد أن يبني مشروعه على نص محكم .
(ولاد بديعة) يقوم على صراع بين (أبناء) عارف الدباغ الذي كسر سمعته في كار (الدباغة) المغلق، من خلال الزواج من (بديعة) المجنونة التي تحتضن طفلة مشردة هي (سكر)، فأنجبت له (شاهين وياسين)، اللذين أصبحا أخوة (مختار) من الزوجة الأولى ..
هذا هو المفتاح الدرامي الذي ينطلق منه الصراع، فيتشعب في الرواية البصرية إلى حكايات وقصص حب وطمع وخيانة وجشع وقتل ، تطلبت هذه الحكايات مسارات درامية ولّفها الكاتبان مع المحور الأساسي برشاقة لافتة.
ورغم أننا قرأنا بعض الاحتجاجات والتعليقات عن المسلسل، ورغم أن عدداً مهماً لم يعجبهم المسلسل، إلا أن هذا في عرف النقد ليس المؤشر الحقيقي على النجاح أو الفشل ، ومع ذلك، وفي لغة (الترند)، حقق مسلسل (ولاد بديعة) مشاهدة عالية، ويمكن تلمس ذلك في الحوارات الشعبية التي تجري من حولنا، وتبحث عن مصائر الشخصيات ومسار الأحداث، ناهيك عن النقد .
وعندما قرأتُ النص بالمصادفة إثر وقوعه بيدي قبل تصويره، رأيتُ فيه نصاً فذاً في لعبة السرد وبناء الشخصيات وعلاقتها بالمكان الاستثنائي (الدباغات) كوعاء للأحداث، وكنت أتصور أيضاً أنه صعب، لأن أصعب الأعمال هي التي تحتمل تشتيت القارئ/المشاهد في سرديتها (كرواية/تلفزيونية)، وتجعله يضيع بين الأزمنة والشخصيات وهي تنمو وتعركها الحياة في آلية الخطف خلفاً، وبين تغيّر ملامح الشخصيات أو أداء أكثر من ممثل للشخصية الواحدة في مواكبة زمانها..
ويمكن للمخرج في هذه الحالة أن يخوض مغامرة خطرة على مساره الإبداعي وخاصة مع تراجع الاعتماد كثيرا على (الفلاش باك) عند كتاب السيناريو الذين ظهروا في الآونة الأخيرة.
كان السيناريو المكتوب لمسلسل (ولاد بديعة) محكماً، لكنه صعبٌ، وفي لغة الإنتاج مكلفٌ على صعيد احتياجات الانتقال الزمني وأمكنة التصوير وأدواته وبناء أحداث آسرة يقوم بها ممثلون ثلاثة أرباعهم يفترض أن يكونوا نجوماً .
ظهر مسلسل (ولاد بديعة) على الشاشة، وظهرت معه (رشا شربتجي) كمخرجة شمرت عن ساعديها لتقدم وجبة رمضانية شهية، جعلت متابعي عملها السابق كسر عضم (الموسم الأول) ، يركضون نحو (ولاد بديعة) ويبحثون عن وقت آخر لمشاهدة (كسر عضم) بعد أن تخلت عنه في الموسم الثاني، أي أنها قادرة على اجتذاب المشاهدين، حتى وإن تعددت الأعمال الجميلة في العروض العتيدة.
إن صراع الأخوة، في مسلسل (ولاد بديعة)، والمسارات الكثيرة التي كشفها السرد البصري، والدخول في أجواء عشناها في الثلاثين سنة الماضية، من دون الغرق في وحولها، ووحول الحرب على السوريين بشكل فج ومباشر، أنتج عملاً مهماً محكماً في صناعة الدراما السورية لموسم 2024 .
وإذا كان النص على هذا النحو، كما رأيتُه عند قيامي بقراءته، ولم تكن كتابة حلقاته الأخيرة قد انتهت بعد، فإن الإخراج وأدواته نجح في تقديمه على الشاشة ، لذلك علّقتُ على صفحتي وأنا أتابع حلقاته بالقول: “المخرجة رشا شربتجي تحمل المشاهد بيدها ، وكأنه طفل صغير تضعه في بحيرة ماء ، (يلعبط ) قليلاً من الخوف، ولكنه وعندما تخرجه يشعر بالفرح، ويطلب العودة إلى الماء!
وماكتبته تكثيف يقول إنها نجحتْ، وهذا صحيح.
في لعبة الثنائيات (الخير والشر)، (الفقر والثراء)، (المريض النفسي والسوي)، (الذكر والأنثى)، (الانتقام والتسامح)، (الذنوب والتوبة)، (الكفر والإيمان)، (الدين السمح والمتاجرون به).. إلخ ، نجح الممثلون في التعاطي مع هذه الثنائيات وتقديم النماذج الصعبة، حتى أن الشخصيات الثانوية ارتدت هذا النجاح، وفرضت نفسها، وذلك بإدارة جيدة للممثل أساسها الانتقاء الصحيح..
ارتدى الجميع قمصان (الكركترات) التي يعملون عليها وأرواحها في وقت واحد،، وكان يمكن لأي خلل على هذا الصعيد أن يكسر لعبة السيناريو التي قرأتُها في النص، وأنا أتوقع نوعا من الفشل.
ويمكن القول إن كل ممثل من الممثلين سجّل في سجله الشخصي (نموذجا) من نجاحاته، لأنه لم يكن من السهل تقديم أنفسهم بطريقة نمطية تم اجترارها من قبل، وهذا من أسباب تأكدي من أن النص كان محكما فعلاً بيدي كاتبيه يامن حجلي وعلي وجيه.
صحيح أن السيناريو أخذ من الأخوة كارامازوف، والأخوة الأعداء، لكنه بنى خصوصية، نماذجه على البيئة والزمان والمكان الذي يؤدي إليها، أي أن بالإمكان الذهاب إلى الواقع ، الذي يشبه اللجة في أحداثه، وعدم الوقوع في فخ البروباغندا والنمطية .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة