إن فاتك أن تصير نحّاتا فكن تمثالا
إن فاتك أن تصير نحّاتا فكن تمثالا .. (موجّهة إلى الأصنام الجديدة وهم يحطّمون تمثال شكري بلعيد في تونس)
أوشك ـ لولا إيماني ـ أن أتّهم نفسي بعبادة الأصنام من كثرة عشقي للتماثيل, خصوصا تلك التي تنتصب في ساحات مدن كبرت بكبارها. الأمير عبد القادر في الجزائر, صلاح الدين في دمشق, ابن خلدون في تونس, سيّد درويش في القاهرة وموزارت في فيينا.
وحدها التماثيل لا تملّ من وقوفها أو جلوسها ولا تنزعج من نظرات الغرباء والزائرين, فوقها تحطّ حملها وتستريح السحب والحمائم والشموس. وحدها التماثيل لا تزور عيادات الأطبّاء ولا المتاحف ولا قبور أصحابها ولا تنظر في الساعة ولا في جيوبها ولا في غدر الأصحاب والزمان. وحدها التماثيل لا يقتفي أثرها ولا يركض خلفها دائن أو زوجة أو رجل أمن, إنّها لا تبالي حتّى بنفسها.
كتبت هذه السطور في مفكّرة صغيرة سرعان ما دسستها في جيبي حين شاهدت تمثال بدر شاكر السيّاب في البصرة بعيون (بيغمليونيّة) وهو محاط بأكياس الرّمل أثناء حرب الخليج الأولى في ثمانينات القرن الماضي.
لن يهرع بدر شاكر التمثال إلى ملجئ هربا وحماية لنفسه من قذيفة طائشة لكنّ عشّاقه خافوا على حياته بعد موته وحوّطوه بأكياس الرّمل. ماذا لو هرب بدر التمثال فعلا بجلده ولحمه وعظمه البرونزي من تلك الحرب السّورياليّة واحتمى في ملجئ آمن ملتقيا بتمثال ابن بلدته: (أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ), ما عساه أن يكون الحوار بين صاحبي الوجهين النحيفين الغريبين المميّزين, بين صاحب (المومس العمياء) و(جينكور) و(يا عراق) وصاحب (البيان والتبيين) و(البخلاء ) و(التربيع والتدوير)!؟..
السيّاب الذي قرّب الشعر إلى النثر والجاحظ الذي حرّرالنثر من الشعر, ماعساه أن يقوله شاعر حزين مات تحت الوجع والسّيروم وهو عليل لمفكّر معتزليّ مات تحت ركام الكتب وهو مفلوج؟…وما الكتاب السّميك الثقيل الذي سقط فوق الجاحظ فقضى عليه… لعلّه كتاب معاصر.. من يدري؟..
كانت هذه فكرة نصّ مسرحي حامت في ذهني آنذاك ثمّ أودعتها أجلا غير مسمّى مثل كلّ فكرة تهمس بها فرشاة الأسنان إلى اللسان كلّ صباح.
ما لي وللمسرح الذي يظلّ يلاحقني كالدّائنين,سأعود إلى النحت,ولو كانت لديّ عضلات مفتولة تقوى على مسك المطرقة والأزميل ومقارعة الصخور وصهر المعادن وصبّها لأصبحت نحّاتا… هكذا كنت أحدّث نفسي وأعزّيها في براءة الأطفال.. ثمّ قرّرت: من لم يستطع أن يكون نحّاتا في حياته فليصر تمثالا في مماته.
لكن… كيف لي أن أتحمّل نفسي تمثالا ينظر إلى هذا العالم بحدقة من معدن وملامح ثابتة, ثمّ إنّي لا أطيق عدسات المصوّرين ولا سماجة السائحين ولا أتمالك نفسي أمام معجبة ولا أقوى على مشاهدة أحفادي وهم يأكلون ويشربون من دوني, بل وقد يولد منهم جاهل وسافل وأرعن لا همّ له إلاّ التباهي بمآثر جدّه… آسف, ليس لديّ الآن أيّ مأثرة غير أحلام اليقظة, لا أظنّكم تحرمونني منها أيضا.
من يا ترى يكون النحّات الذي سوف يتقن صنع أخطائي الفيزيولوجيّة ويقترب من كلّ جسدي بإزميله ومطرقته دون أن أتألّم أو أنزعج أو أتحسّس؟..
قد يتغيّر محافظ المدينة أو رئيس البلديّة ويأتي آخر لا يطيق رؤيتي فيأمر بإتلافي أو إرسالي إلى مستودع المفقودات أو إلى حيّ أشعر بالغربة فيه, أو يأمر بإعادة صهري وتذويبي, قد يسرق الشهرة منّي نحّات بارع ويوقّع بالأحرف الكبيرة اسمه تحت قدمي أو على خاصرتي, قد تبصق فوقي العصافير والطائرات, قد لا تحميني أكياس الرّمل فأضطرّ للهروب إلى ملجئ أجد فيه تمثال رجل أكرهه أو حتّى امرأة كنت أحبّها فما عساه أن يكون حوار المعادن عندئذ؟..
أيّها النحّات الذي سوف يأتي, لا تصنع لي تمثالا من معدن نفيس ,قد يشتهيه الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء,لا تصنعني من شمع, أنت تعرفني سريع الذوبان أمام كلّ المغريات, اصنعني من الشوكولا.. أجل من الشوكولا.. وليتقاسمني الأطفال والنساء البدينات والباحثون عن الحنان.
أكاد أعرف من سوف يأكل رأسي و أنفي وكبدي وقلبي وأصابعي و..
لا.. لا تصنعوا لي تمثالا, اصنعوا لي ازميلا ينحت في الريح ما يقوله لها الحالمون والمتألّمون وما تقوله الريح نفسها لدفاتر العشّاق وأكواخ الفقراء و.. النخيل.