الاغتيال السياسي أو الرد على الفكرة برصاصة
الاغتيال السياسي أو الرد على الفكرة برصاصة .. استيقظت تونس صبيحة يوم الاربعاء الماضي على طلق ناريّ و(تاريخي)من العيار الثقيل ألا وهو حادثة اغتيال أحد رموز اليسار الوطني الديمقراطي المعارض (شكري بلعيد) والذي يمثّل مع حليفه ورفيقه (حمّه الهمّامي) القيادة الموحّدة للجبهة الشعبية التي جمعت شمل اليسار ,:أشرس خصوم الترويكا الحاكمة بأغلبيتها البرلمانية …والمحكومة أيضا بإخفاقاتها السياسية والاقتصادية.
يقول مؤرخو العصور القديمة والحديثة إن القاموس التونسي لم يعرف مصطلح (الاغتيال السياسي ) إلاّ في عصر الفاطميين الذين تركوا الحكم في عاصمتهم(المهديّة) بطوع إرادتهم واتجهوا إلى مصر مع رفات أمواتهم لتأسيس القاهرة على يد المعزّ وقائده جوهر الصقلّي هناك ,ذلك أنهم وجدوا أنفسهم جسما غريبا كأصحاب دعوة شيعيّة داخل غالبية سنيّة ,وهم القادمون من تعقيدات المشرق العربي حين أفول دولة العباسيين ,ثمّ جاءت خمسينات القرن الماضي لتنطبع بأهمّ اغتيالين سياسيين في تاريخ تونس الحديث وهما قتل الزعيم النقابي فرحات حشّاد من طرف عصابات الألوية الحمراء المتعاملة مع المخابرات الفرنسية ثمّ تأتي حادثة تصفية ألدّ خصوم بورقيبة بعد الاستقلال (صالح بن يوسف) الذي اغتيل في فرنكفورت على يد البوليس السرّي التونسي لتغلق ملفّا يعاد اليوم فتحه بعد ما يزيد عن نصف قرن من المدّ والجزر والاحتقان والغليان …إلاّ أنّه لم يصل إلى مرحلة القتل الممنهج والتصفية الجسديّة للإنفراد بالحلبة السياسيّة و(تطهيرها) من رؤوس أينعت فوجب قطافها.
كيف حدث هذا في تونس اليوم وفي وضح نهار شتائي ملبّد بسحب سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنيّة ….لماذا حدث هذا في بلد يزعم أنّه افتتح ربيعا عربيّا نبت على قبور شهداء الحرية ,ربيع خرجت فيه الطيور من أعشاشها والزواحف من سباتها …وكذلك السيوف من أغمادها.
هل هي الفتنة النائمة التي أيقظتها (نسائم ) التعبير الإنفلاتي و(حريّة) القنص والاستقواء بالأجنبي يمينا كان أم يسارا ,على خلفيّة أنّ اغتيال المعارض (شكري بلعيد) جاء بعد يومين من قتل رجل الأمن (لطفي زار) على يد عصابات نهب وسرقة تدّعي حركة النهضة الإسلامية أنّ جهات معارضة كانت وراء تمويلها لإذكاء حالة الفوضى في البلاد , ومن ثمّ إضعاف (شكيمة) النظام الذي تقوده الحركة المذكورة.
التونسيون الذين لم يتعرّفوا على السلاح إلاّ في التلفزيونات والثكنات المغلقة على أسوارها ,التونسيون الذين لم يلمسوه إلاّ على شكل بنادق صيد مرخّصة ومعروفة الأكتاف التي تحملها بشكل جيّد في نظامي بورقيبة وبن علي …سيميّزون بعد أشهر قصيرة بين النوعيات والعيارات ومستويات الدقّة والتصويب مثل أشقائهم اللبنانيين والسوريين واليمنيين بفضل انتعاش تجارة السلاح وتهريبه من حدود الثورة الجنوبية في الشقيقة ليبيا أو السبّاقة في استعماله – دون وجهة – كالجارة الغربية الكبرى (الجزائر).
سبق اغتيال (شكري بلعيد ) – الذي يسهل على أيّ محقّق مبتدئ توجيه اصبع الاتهام الأولى إلى الجاني – احتقان سياسي وتذمّر شعبي وارتفاع صاروخي في بورصة المعارضة الليبرالية واليسارية مقابل اخفاقات بالجملة تسجّلها الترويكا الحاكمة المتخاصمة وسط تبادل اتهامات وشتائم ينتعش منها الإعلام الذي أوغل في الحريّة إلى حدّ الفلتان ,مثل نمر طال حبسه ومحاولة تدجينه في النظام السابق .
عقب اغتيال (شكري بلعيد) – الذي مني بجنازة ومراسم تشييع عسكرية تليق بشهيد لم يكن يحلم بها (شكري)في حياته الاحترافية القصيرة – ,عقب كل ذلك حماس وتأثّر وغضب واضح في أوساط الشارع العام قبل مناصريه …ممّا جعل الاسلاميين ينحنون للعاصفة ,يلزمون بيوتهم ويتجنّبون ردّات الفعل الاستفزازيّة.
يجد التونسيون أنفسهم الآن ,وأمام هذه السابقة والحدث الجلل الذي يكاد يقسمهم إلى نصفين أمام سؤال يختصر أسئلة كثيرة :(هل دخلنا نفق الاغتيال السياسي على الطريقة اللبنانية وبمجتمع يخلو من التعددية الطائفية ,أم هو الاستقطاب السياسي المبكّر على شاكلة ديمقراطيي أمريكا وجمهورييها ,يمين فرنسا ويسارها ,محافظي بريطانيا وعمّالييها …ولكن بعملية قيصرية ودون نضوج لمؤسسات الدولة.
هل تسير الفئة الحاكمة التي يترأسها الاسلاميون على الطريقة الإيرانية التي يمثّلها راشد الغنوشي أو (الوليّ الفقيه) وفق النموذج التونسي السنّي المالكي ,على اعتبار أنّ زعيم حركة النهضة في تونس هو الذي بيده الحلّ والربط ولا يعلو صوت على صوته كما هو مأزق رئيس الحكومة الآن (حمادي الجبالي) الذي تتردّد أنباء عن امكانية استقالته من حزب النهضة اثر خلاف حادّ مع زعيمها و(صقورها)المنادين بضرورة بسط اليد على الدولة ومؤسساتها في المجتمع المدني.
هل صار الرصاص أصدق أنباء من الحوار والكتب في تونس التي طالما تباهت باعتدالها وانفتاحها على هامش مدرستها الزيتونية العريقة وبعدها عن تعقيدات المشرق العربي وتوازناته المستحيلة ,أم أنّ العرب عرب في تغليبهم لقطع الألسنة بدل الإنصات إليها ..!؟.
*كلمة في الزحام :
الحقيقة الوحيدة أنّ (شكري بلعيد) مات بحركة زناد من اصبع قنّاص لم تنطق بالشهادة …ولم تنتبه إلى أنّ ثلاث اصبع في ذات اليد ,موجّهة إلى صدر صاحبها وفق اقتراف الجريمة.